الأكثر رواجاً

التاريخ الاسلامي الوجيز

يؤرخ لدول المسلمين من بداية ظهور الإسلام وحتى الانقلاب…

القواعد الفقهية في كنز الراغبين للمحلي

الإلمام بالقواعد الفقهيَّة ضروري لكل طالب علم ولكل…

إعراب القرآن الكريم كبير

أعربت كلمات وجمل كل صفحة من المصحف في الصفحة ذاتها،…

ابحث عن

مؤسس الدار : أحمد راتب عرموش
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
 

مساحة إعلانية

 
تمت اضافة خاطرة جديدة ضمن اخترنا لك بعنوان:عرب ويهود............................. تم رفع كتاب النشاط السري اليهودي للأستاذ غازي فريج ضمن الكتب المجانية
 
 

رهاب من المسلمين أم رهاب المسلمين

رُهابٌ من المسلمين، أم رُهابُ المسلمين؟

                                            أ.د. أسعد السحمراني

                           أستاذ العقائد والأديان المقارنة في جامعة الإمام الأوزاعي - بيروت

تمهيد:

الرُهاب (Phobia-Phobie) مرض يصيب شخصاً أو قد يتفشّى في جماعة بشريّة معيّنة، ويكون الرُهاب حالة خوف من شيءٍ ما، أو من جماعة ما. فهناك شخص قد يُصاب برُهاب العتمة فلا يرضى إلاّ البقاء في الضوء ويزداد رُهابه مع حلول الظلام، وهناك من يكون عنده خوف من ركوب الطائرة أو السفينة، وبذلك ينشأ عنده رُهاب من السفر بهذه الوسلية من وسائل النقل، وهناك مواطن قد يُصاب برُهاب من حاكم مستبدّ، أو سلطة جائرة، وهناك رُهاب هو مرض خوف الأقليّات من الأكثريات... الخ.

أمّا رُهاب الإسلام، وهو ما يُستخدم له مصطلح إسلاموفوبيا islamophobia – islamophobie، فإنّه مصطلح ظهر حديثاً، وقد أنتجه الإنكليز في العام 1997، وهم من نشره. وسبب طرحه كان حدوث بعض أعمال الإرهاب أو العنف، والاستخدام غير المشروع للقوّة من قبل مجموعات تخفّت تحت شعارات إسلاميّة، أو زعمت أنّها تدافع عن الإسلام أو تنصره من خلال أعمالها هذه؛ خاصّة بعد أحداث 11/9/2001.

لقد نهضت جمعيّة تُدعى (رونيميد ترست) (Runny mede trust) برئاسة غوردون كونواي في بريطانيا، وكانت أهدافها خلق الكراهيّة والعدائيّة ضدّ الإسلام والمسلمين، وكان المنطلق عندهم صورة نمطيّة عن الإسلام صوّروه من خلالها أنّه يدعو لرفض الآخر، وأنّه لا يقبل المخالف ويأمر بقتله واغتصاب حقوقه، وكانوا يقصدون من ذلك تكوين مخزونات في وجدان الأوروبي، ووجدان غير المسلمين عامّة، مادّتها خوف غير عقلاني ولا مبرّر ولا له سند أو حجّة ضدّ الإسلام، واستمدّوا مزاعمهم من بعض الحوادث الصغيرة التي مارس فيها العنف والتطرّف مسلمٌ بداعٍ من ردّة فعل على فعل عدواني، أو بعض أدعياء الإسلام، واستطاعوا أن يفرضوا على الإعلام، وعلى الخطاب عامّة مفردة جديدة هي (إسلاموفوبيا)؛ والصحيح أن يطرح من يتوخّى الدقّة ما يلي:

هل الرُهاب كائن من الإسلام عقيدة وشريعة، أم من ممارسات بعض أدعياء الإسلام؟

هل هناك رُهاب عند المسلمين من أوروبا؟ هل هناك رُهاب عند المسلمين من أمريكا؟ هل هناك رُهاب عند الفلسطينيين والعرب من المحتلّ الصهيوني؟ هكذا تزداد الأسئلة الإشكاليّة التي من الواجب السعي لردود عليها، لأنّ المعالجة التي لا تكون متّسمة بالموضوعيّة ولا منطلقة من الواقع سيكون مصيرها الفشل، وتذهب الجهود المصروفة عليها سدى.

لا رُهاب في الإسلام:

إنّ مراجعة الإسلام عقيدة وشريعة وفقهاً، ومن ثمّ الوقوف على محطّات تاريخيّة كثيرة، يتبيّن بعدها أنّه لا مكان في الإسلام للعدوانيّة، أو الجور والظلم، ولا مكان للغلوّ والتطرّف، كما أنّه لا مكان للفكر الذي يعمد إلى إلغاء الآخر، وبذلك يكون السؤال: لماذا رُهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا islamophobia؟

وإذا كان الأساس في الإسلام الإقرار بالتنوّع والتعدّديّة، ومعها الدعوة لعلاقات إنسانيّة عمادها التعارف بين الناس جميعاً، وفي هذا قوله تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ[ (سورة الحجرات، الآية 13)، فما مبرّر إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام؟ ولماذا الرُهاب من الإسلام؟ وإذا كان الأصل في الإسلام أنّه دين الرحمة بالناس جميعاً؛ لا بل الرحمة بالكائنات كلّها، فرحمة الإسلام تشمل الإنسان والطائر والحيوان والثروة وسواها، وهذا مقصد البعثة النبويّة الشريفة بمشيئة إلهيّة، وقد قال الله تعالى: مخاطباً النبيّ عليه الصلاة والسلام: ]وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ[ (سورة الأنبياء، الآية 107)، فهل يكون من الإسلام رُهاب لأحد؟ وما دليل الزاعمين القائلين بالإسلاموفوبيا أو رُهاب الإسلام؟!

وقد نقل القرطبي في تفسيره عن المحدثين في تفسير الآية السابقة الذكر بشأن الرحمة ما يلي: "قال سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: كان محمّد صلّى الله تعالى عليه وسلّم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدّق به سَعِد، ومن لم يؤمن به سَلِم ممّا لحق الأمم من الخسف والغرق."[1]

ثمّ إذا كانت العلاقات بين البشر بدءاً من الخليّة الصغرى الأسرة إلى سائر الوحدات الاجتماعيّة، إلى الوطن والأمّة، والعالم، محتاجة لمواثيق وعقود وعهود، فإنّ الإسلام قد أصّل لهذا الموضوع تأصيلاً جاء بصيغة الأمر؛ وكان ذلك في الآية الكريمة: ]وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡ‍ُٔولٗا[ (سورة الإسراء، الآية 34) وقد جاء الأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق عامًّا شاملاً لكلّ ما يعاهد عليه الإنسان، وخيانة العهود، ومعها الغدر الذي يتولّد عن ذلك من الأمور التي لا يقرّها الشرع الإسلامي، ولا هي من خُلُق المسلم الصادق في التزامه، وممّا جاء في هذا الباب كذلك قول الله تعالى في سمات شخصيّة النبي اسماعيل عليه الصلاة والسلام، وهو الآية الكريمة: ] وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا ﴾ (سورة مريم، الآية 54). وقد ورد الصدق والوفاء بالوعد والعهد قبل أن تذكر مسألة النبوّة، وذلك لأنّ صدق الوعد يولّد الثقة بالشخص كي يؤخذ عنه، والأمر نفسه كان حين تعارف أهل مكّة المكرّمة قبل البعثة على أن يصفوا النبي عليه الصلاة والسلام بقولهم: (الصادق الأمين).

وهناك في السنّة النبويّة الكثير في هذا الباب؛ منه واقعة حصلت بعد اتّفاق الحديبيّة مع مشركي قريش، حيث كان في الاتّفاقيّة بند يقضي بردّ من يدخل في الإسلام من القوم ويلتحق بالنبيّ عليه الصلاة والسلام في المدينة المنوّرة، وهذه الواقعة تتعلّق بشخص هو (أبو بصير عُتبة بن أسيد بن جارية). وكان من المسلمين الذين حُبسوا في مكّة المكرّمة، وبعد الحديبيّة التحق بالمدينة، فما كان إلاّ أن بعث مشركان رجلاً للمراجعة في الأمر؛ وقد ورد عند ابن هشام: "بعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، تقدّما على رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام بكتاب الأزهر والأخنس، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أبا بصير؛ إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك."[2]

إنّها قاعدة تصلح لبناء علاقات سليمة بين أي طرفين، وأيًّا تكن أنواع هذه العلاقات والعقود بينهم، وهل ما يفسد العلاقات أكثر من خوف الخيانة؟! فهي قاعدة واجب الأمم أن يخطّوها بأحرف من ذهب، وأن يتداولوها، وأن يزيّنوا بها كلّ مكان يجلسون فيه؛ "ولا يصلح لنا في ديننا الغدر".

وممّا جاء في الخيانة، وأنّها مرفوضة في الإسلام قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍ﴾ (سورة الحجّ، الآية 38). وفي هذه الآية نهي يرافقه تشدّد عن الغدر والخيانة.

والوفاء بالعهود والمواثيق مطلوب في الإسلام مع جميع الناس، فهو قاعدة عامّة شاملة، والدليل على ذلك هذا الحديث: "حدّثنا حفص بن عمر النمري، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي الفيض، عن سُليم بن عامر –رجل من حِمير- قال:

كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر: وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله -تعالى- صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلّها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء.) فرجع معاوية."[3]

وعمرو بن عبسة السلمي رضي الله –تعالى- الذي راجع معاوية دخل في الإسلام في العام السادس بعد البعثة، وشهد المشاهد، وهو من اوائل من أسلموا، وقد عاش آخر أيّام حياته في حمص، وقبره موجود معه مسجد صغير في سوق حمص يعرفه من يقيم في المدينة أو يزوروها. وهو رابع أو خامس من دخل في الإسلام، ويكون عندها من البديهي أن يراجع معاوية، وأن يأمره بإمضاء العهود التزاماً بالشريعة.

قبل مغادرة هذا المبحث يفيد أن تكون خاتمته الحديث النبوي الشريف الآتي: " حدّثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبدالله بن مرّة، عن مسروق، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: أربع من كنّ فيه كان منافقاً، وإن كانت خِصلة منهن كانت فيه خِصلة من النفاق حتّى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر."[4]

وإذا كان الوفاء بالعهود والمواثيق والتزامها من علامات إسلام المسلم وإلاّ كان منافقاً، فهل يكون في الإسلام رُهاب (Phobia-Phobie) لأحد؟ وإذا كانت حجّة بعضهم مأخوذة من سلوك أحد المسلمين أو مجموعة منهم، فالردّ ومن أتباع المعتقدات أو الدول أو الاطر الاجتماعيّة من يفسد، فهل يصحّ أن يتّهم الجميع؟ والقاعدة الإسلاميّة في هذا هي قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ﴾ (سورة الإسراء، الآية 15)؛ أيّ: إنّه لا يصحّ أن يؤخذ العامّة بذنوب الخاصّة.

ويأتي الكلام بعد ذلك للردّ على زعم أطلقه غربيون منذ مئات السنين مفاده أنّ الإسلام انتشر بالسيف، وأنّه فُرِض بالإكراه والقوّة، والردّ يأتي من الأصل الإسلامي القائل: إنّ حرّيّة المعتقد مكفولة في الشرع، ولا حقّ لأحد أن يفرض على الناس معتقده، فالإنسان يختار دينه وعقيدته، والحكم لله تعالى وحده.

لقد جاءت آيات قرآنيّة كثيرة تؤكّد على حرّيّة الإنسان في اختيار عقيدته وما يدين به، وأنّه لا حقّ لأحد إكراهه على ما يؤمن به. وهذه بعض الآيات:

﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ﴾ (سورة البقرة، الآية 256).

﴿ وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ﴾ (سورة الكهف، الآية 29).

وفي الخطاب للنبيّ عليه الصلاة والسلام وهو لكلّ أتباع الإسلام: ﴿ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾ (سورة يونس، الآية 99).

وقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ * لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ﴾ (سورة الغاشية، الآيتان 21، 22).

وإذا كان من المسلّم به أن يكون واجب المسلم أن يدعو إلى دينه، وكما هو معلوم بالحكمة والموعظة الحسنة، لكن من شاء ان يكون على غير الإسلام فهذا اختياره والحكم يكون في اليوم الآخر لله تعالى. والآية الكريمة: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ﴾ (سورة الحج، الآية 17).

وإذا أخذ المتابع حالة واحدة من حالات الدخول في الإسلام في بداية البعثة وقبل الهجرة النبويّة –يوم كان المسلمون قلّة مستضعفين في مكّة المكرّمة- هي واقعة إسلام عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه، فإنّها تتضمّن الردّ الوافي على الزاعمين.

كان إسلام عمر بعد إسلام عشرات المسلمين، والبداية كانت حين قال له أحدهم: أختك فاطمة وزوجها سعيد بن زيد قد دخلا في الإسلام. ورد في (الكامل في التاريخ): "فرجع عمر إليهما وعندهما خباب بن الأرتّ يقرئهما القرآن. فلما سمعوا حسّ عمر تغيّب خباب، وأخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خبّاب... قال: قد أُخبرت أنّكما تابعتما محمدًا ، وبطش بختنه سعيد بن زيد ، فقامت إليه أخته لتكفّه، فضربها فشجّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: قد أسلمنا وآمنا بالله –تعالى- ورسوله ، فاصنع ما شئت.

 
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم وندم وقال لها: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن، حتى أنظر إلى ما جاء به محمد . قالت: وقد طمعت في إسلامه، إنك نجس على شركك ولا يمسّها إلاّ المطهّرون ، فقام فاغتسل. فأعطته الصحيفة وقرأها، فلما قرأ بعضها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه."[5]  عندها برز له خباب، وقال له: سمعت النبيّ عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم أيّد الإسلام بعمر. وخرجا معاً حتّى وصلا دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأبلغا النبيّ عليه الصلاة والسلام؛ أنّ عمر أتى ليشهر إسلامه، فهلّل وكبّر الرسول ومعه الصحابة، وكان الحديث: (إنّ إسلام عمر كان فتحاً)، وكان قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطّلب رضي الله تعالى عنه ولإسلامه قصّة قريبة من هذا، فقوي المسلمون بهم. فهل رهاب الإسلام أدخل عمر وحمزة في الإسلام؟!

وبعد أن قوي المسلمون وأقاموا كيانهم الدستوري الأوّل الذي هو دولة المدينة، وتوالت السرايا والفتوحات، كان معها العهود لسكّان البلاد من المسيحيّين خاصّة، وكان ذلك بعد (الصحيفة) الوثيقة الأولى دستورياً بين متنوّعي المعتقد في المدينة المنوّرة حيث أقرّت بالمواطنة وبالكيان التعدّدي، وإذا كان البحث لا يتّسع لذكر الكثير، فإنّه يكفي أن يرد فيه عهدٌ نبويٌّ أُعطي لنصارى نجران بعد الصلح، وممّا جاء فيه: "لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمّة محمّد النبي رسول الله على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعيرهم وبعثهم، وأمثلتهم لا يغيّر ما كانوا عليه، ولا يغيّر حقّ من حقوقهم، وأمثلتهم لا يُفتن أسقف من أسقفيّته، ولا راهب من رهبانيّته."[6]

وقد توالت بعدها النصوص في العهود، ويأتي بعدها الشاهد المنظور الذي هو انتشار المسيحيين في كلّ أرجاء الوطن العربي، وفي كلّ بلد دخله المسلمون.

يضاف إلى ذلك أمان كان يجده المسيحيّون مع مواطنهم المسلم وحكامه حين يحصل نزاع مذهبيّ كنسيّ بين أتباع المفاهيم اللاهوتيّة المتنوّعة، والمحطّة الأبرز هي لجوء الموارنة في القرن السابع الميلادي إلى جبل لبنان وافدين من شمالي حلب، ومن محيط حماة، حيث لاحقهم الروم البيزنطيّون المختلفون معهم عقدياً. وكان قبل ذلك تعاون نصارى بلاد الشام مع الفاتح العربي المسلم ضدّ البيزنطيّ من الدين نفسه، لأنّهم لمسوا العدل وحسن المعاملة من المسلم، وكتب التاريخ ذاخرة في ذكر الحوادث والمواقف.

لقد كان حوار في بلاط الخليفة العباسي المهدي وبحضوره مع البطريرك طيماثوس الأوّل، وكان هذا الموقف قمّة في التسامح، والإقرار بالآخر المختلف عنك عقيدةً وديناً. وممّا جاء في هذا الحوار بلسان طيماثوس الأوّل الجاثليق: " وملكنا الحكيم المملوء حكمة قال لي: ماذا تقول عن محمد؟ فجاوبته قائلاً: إن محمداً يستحقّ المدح من جميع الناطقين، ولذلك لأجل سلوكه في طريق الأنبياء ومحبّي الله، لأنّ سائر الأنبياء قد علّموا عن وحدانيّة الله، ومحمّد علّم عن ذلك. فإذًا، هو أيضاً سلك طريق الأنبياء.

ثمّ كما أنّ جميع الأنبياء أبعدوا الناس عن الشرّ والسيئات، وجذبوهم إلى الصلاح والفضيلة، هكذا محمّد أبعد بني أمّته عن الشرّ، وجذبهم إلى الصلاح والفضائل، فإذاً، هو أيضاً قد سلك في طريق الأنبياء."[7]

هذه الحرّيّة الدينيّة كانت ظاهرة ومعلومة لكلّ منصف، وهذا موقف خطّه ثلاثة مؤرّخين معاصرين هم: فيليب حتّي، وأدوار جرجي، وجبرائيل جبّور، في كتابهم المعنون: (تاريخ العرب المطوّل)، وقد قالوا: "ومن أعجب الظواهر في حياة النصرانية في ظلّ الخلفاء أنّه كان لها من القوّة والنشاط ما دفع بها إلى التوسّع، فافتتحت لها مراكز تبشيريّة في الهند والصين، وقد أنبأنا ابن النديم عن اجتماعه براهب في دار الروم ببغداد كان قد أنفذه الحاثليق مبشراً إلى الصين.

وأنّ العمود الحجري المشهور في (سان فو) بالصين الذي نصب سنة 781م تذكاراً لجهود سبعة وستين مبشّراً نسطورياً، وانضمام الكنيسة الهنديّة وأتباع القدّيس توما في مالابار بالقرب من مدارس إلى بطريركيّة بغداد لدليل على حيويّة الكنيسة السريانيّة الشرقيّة، وغيرتها الدينية للتبشير، بينما كانت تعيش في كنف المسلمين."[8]

وإذا أضفنا إلى ذلك ما كان من حضانة مراكز العلم عند العرب لمن قصدها من أوروبا الغربيّة، فإنّ ذلك كلّه يأتي ليفنّد مزاعم المفترين أنّه هناك إسلاموفوبيا. لقد شهر تاريخ الحركة العلميّة الأوروبيّة في تحصيل علوم العرب والمسلمين من الوقائع ما يلي: " كانت الجامعات الإسلاميّة عبر عصور الازدهار الحضاري مفتوحة ومنفتحة على المجتمعات المحيطة بجميع فئاتها وشرائحها... فقد كانت أبواب المعاهد العلميّة التي أقيمت في المناطق الإسلاميّة مفتوحة في وجه طلاّب العلم من مختلف البلدان ومختلف الملل. ... وهكذا فقد كانت لقيمة التعايش أثرها في تلقّي غير المسلمين للعلوم والمعارف في رحاب الجامعات الإسلاميّة بكلّ حرّيّة وانفتاح، فقد درس موسى بن ميمون اليهوديّ في جامعة أشبيلية، كما أنّ البابا سلفتر الثاني تلقّى تعليمه في جامعة قرطبة، ويقال: إنّه وصل إلى فاس ونهل من جامعة القرويين... كما ورد على جامعة القرويين عدد من الأوروبيين، منهم القسّيس نيكولا كلينار Nicolas Clénard الذي حلّ بفاس (975هـ- 1540م) من اجل تحسين معارفه في اللغة العربيّة على علماء جامعاتها، ومنهم أيضاً الهولندي جوليوس Golius الذي تخصّص في الدراسات العربيّة في جامعة ليدن، وسافر إلى المغرب عام 1622م، فأقام بفاس وكانت له لقاءات بعلمائها."[9]

ما تمّ عرضه هو قليل من المحطّات التي تنبئ بسماحة الإسلام، وانفتاح المسلمين على مواطنيهم من كلّ الانتماءات والعقائد، وبعد ذلك على الناس كافّة، فهل يستطيع زاعم أن يخبرنا: ما مصدر الرُهاب من الإسلام أو الإسلاموفوبيا؟!!

يبقى في هذا السياق من العرض الحديث عن قواعد الحرب في الإسلام جلاءً للحقيقة، وردًّا للشبهات التي يثيرها بعضهم مستندين إلى ممارسات قلّة من المسلمين، أو إلى بعض المحطّات التاريخيّة التي ظهر فيها من أساء للمسلمين كما أساء لغير المسلمين، كما هو حاصل هذه الأيّام من قبل بعض الغلاة والتكفيريين.

والموضوع الأخير في هذا السياق الذي يجدر الوقوف عنده: موضوع الحرب وقواعد الحرب في الإسلام. فقد طرح الأعداء وأصحاب الأهواء الكثير الكثير من الشبهات والمفتريات، وكلّها لم تنطلق من دليل بيّن.

الحرب في الإسلام ليست مقصداً، وإنّما يذهب إليها المؤمن مكرهاً لدفع عدوان، أو لتحرير أرض محتلّة، أو لوقف استبداد واستعباد، وقد بيّنت ذلك الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ ﴾ (سورة البقرة، الآية 216). وإذا تحقّق الهدف بلا قتال عندها تكون الاتّفاقات والعهود والمواثيق. والنماذج كثيرة من (صحيفة المدينة) يوم الهجرة مع غير المسلمين من سكّان المدينة، إلى اتّفاق الحديبيّة مع مشركي قريش في العام السادس للهجرة إلى عهد نصارى نجران الذي سبق ذكره وغير ذلك كثير كثير.

والحرب قد تتّخذ ميدان الفكر، أو الإعلام، أو الاقتصاد، أو العمل العسكري، وفي كلّ أشكال الحرب سواء استخدم المسلمون حالة الهجوم، أو الدفاع، فإنّهم لا يقومون بذلك إلاّ من باب ردّ الشرّ والعدوان، والدليل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية 190).

فالأصل أن يعامل المسلم سواه بالبرّ حال سالمه ولم يعتدِ عليه أو على دمه وعرضه ووطنه ومقدّساته، أو لم يُخرجه من دياره، وتكون الحرب وتكون المواجهة لمن اعتدى، أو حالف العدوّ وسانده، أو أخرج المسلمين من ديارهم كما فعل العدوّ الصهيوني بالعرب في الأراضي المحتلّة، أو كما يفعل شركاء الصهيوني في جريمته وعدوانه.

وقد جاء تحديد ذلك في قول الله تعالى: ﴿ لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم
مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ * إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ (سورة الممتحنة، الآيتان 8، 9).

وإنّه ليكفي في هذا السياق أن تكون الحجّة الأساس في قواعد الحرب هذا الحديث النبويّ الشريف: " حدّثني عدالله بن هاشم – واللفظ له-، حدّثني عبدالرحمن – يعني ابن مهدي-، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام، إذا أمرّ أميراً على جيش أو سريّة، أوصاه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً. ثمّ قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً. وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيّهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثم ادعهم من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنّهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحوّلوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين؛ يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسَلْهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمة نبيّه. فلا تجعل لهم ذمّة الله وذمّة نبيّه. ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك، فإنّكم، أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم، أهون من أن تخفروا ذمّة الله وذمّة نبيّه؛ وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا."[10]

إنّ هذا الحديث قد حوى مجموعة من القواعد هي:

1- الحرب تكون في سبيل الله تعالى، أيّ: لنصرة الحقّ ونشر العدالة وتحقيق كرامة الإنسان، ولا تكون الحرب لهوى في النفس أو لأطماع أو عدواناً أو ظلماً.

2- لا مكان في حرب يخوضها المسلم للغدر، أو التمثيل بالجثث، أو إتلاف الممتلكات أو سرقتها، ولا قتال لغير المقاتلين.

3- عند المواجهة يعطي أمير الجند خيارات لأعدائه كي لا يكون القتال، ولا يقاتلهم إلاّ بعد رفضهم لكلّ وجوه الحلّ المعروضة عليهم."

4- العهود للمحاصرين تكون من أمير الجند وأصحابه فهم من سينفّذ، ولا تكون العهود باسم الله تعالى ونبيّة عليه الصلاة والسلام، وتفسير ذلك أنّها تكون باسم المسلمين لا باسم الإسلام.

5- وعند الذهاب إلى الفصل وإعطاء الحكم، يكون ما يصدر باسم من حكم لا باسم الله تعالى، فكلّ فضاء إنّما هو جهد بشر بعد فهم، وقد لا يحيط الحاكم أو القاضي بكلّ مجريات الأشياء.

بعد كلّ هذا أيصحّ من أحد أن يزعم أنّه يحكم باسم الدين؟ وعندما يمارس فرد أو مجموعة شيئاً من التطرّف والإرهاب، وتصدر منهم أفعال مشينة، لا يجوز أن ينسب أحد ذلك إلى الأسلام، بل لمن قام به ومارسه.

ثمّ يفيد في هذا السياق أن ترد وصيّة الخليفة الراشدي الأوّل أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، التي تضمّنت قواعد للحرب جاءت من رحم ما تمّ عرضه سابقاً من النصوص الشرعيّة قرآناً وسنّة. فقد كانت وصيّة الصدّيق لأوّل جيش خرج في خلافته بقيادة أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، هي الآتي: "لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً وتحرقوه، ولا تحرقوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرّون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له."[11]

إنّ هذا التطواف مع أحكام الإسلام في بعض الأمور لا يجيز لأحد –خاصّة للشخص المنصف- أن يلصق بالإسلام تهمة الإرهاب، والدعوة إلى العنف والاستخدام الغاشم للقوّة، ولا يجد المتابع ثمّة داعٍ للخوف المرضي اللاعقلاني من الإسلام الذي يسمّونه إسلاموفوبيا islamophobie، بل الصحيح أن يشعر الإنسان في فضاءات شريعة الإسلام بالأمان والاستقرار النفسي، وأن ينتظر العدالة والحريّة، وأنّه سينال كلّ ما يحقّق كرامته.

وإذا كانت الذريعة لمقولة الإسلاموفوبيا أفكار متطرّفة وتكفيريّة، وممارسات إجراميّة يقوم بها أفراد أو حركات هذه الأيّام، أو في غير مَجْريات مسارات الأحداث حالياً، فإنّ البحث يجب أن يتّجه إلى مصدر مثل هذه الأفكار والممارسات ليكتشف سريعاً أنّ منشأ هذه الحركات والمجاميع إنّما هو بريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وغيرهما من دول الغرب التي تشكو اليوم من التكفيريين والغلاة، وهي من صنعهم وموّلهم. ولنأخذ البيان من الصحافيّة الأمريكيّة توماس هيلن (ت في 21 تمّوز /يوليو 2013) عن خمس وتسعين عاماً، وفضحت العلاقة بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وداعش وسواها من المجموعات الإرهابيّة، وقد قالت في تصريحها الذي ضجّت به الأوساط الإعلاميّة ما حرفيّته: " يهود يسيطرون على إعلامنا وصحافتنا، ويسيطرون على البيت الأبيض. وأضافت؛ أنا لن أغيّر ما حييت، ما أنا مؤمنة به؛ الإسرائيليّون يحتلّون فلسطين، هذه ليست بلادهم، قولوا لهم: ارجعوا لبلادكم واتركوا فلسطين لأهلها.

إنّني أرى بوادر حرب عالميّة ثالثة، طُبِخت في مطبخ تلّ أبيب ووكالة الاستخبارات الأمريكيّة، والشواهد عديدة. لا تصدّقوا أنّ واشنطن تحارب الإرهابيين وما يسمّون أنفسهم بالجهاديين، لأنهم دمية في أيدي (السي اي ايه) أي وكالة الاستخبارات الأمريكيّة.

وهناك مصدر آخر هو كتاب هيلاري كلينتون المرشّحة الرئاسيّة الأمريكيّة ووزيرة الخارجيّة السابقة المعنون: "خيارات صعبة"، والذي بيّنت فيه بالدليل القاطع أنّ داعش صناعة أمريكيّة.

 

رُهاب غير المسلمين، أو رُهاب المسلمين من آخرين:

إنّ المتابعة لمسألة مرض الخوف من آخر أو من شيء ما (فوبيا phobie) تفيد أنّ العرب والمسلمين ومعهم شعوب كثير من قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا قد أصابهم رُهاب من دول وحكام ومجموعات كلّها ليست من المسلمين، ووضعاً للأمور في مسارها الصحيح، يعرض كاتب هذه المقالة الحالات الآتية:

1- الصهيوفوبيا (Siophobie)

إنّ الصهيونيّة في فكرها السياسي العنصري لم تصل إلى ما حصل، وإلى الأحياء المغلقة المسمّاة: (غيتو)، ولا كان عندها الاستعلاء، وتصنيف أنفسهم أنّهم الشعب المختار، إلاّ لأنّ النصّ الديني اليهودي الموجود في (العهد القديم) و(التلمود) قد أمرهما بروح العداء والاستعلاء، وغدت العنصريّة ومعها عشق لعق دماء الآخرين، وسلب ممتلكاتهم هي مكنونات النفس عند أغلبهم، ولذلك كان المعترضون على الصهيونيّة أقليّة قياساً مع من انحرفوا مع الصيهونيّة بكلّ مشروعاتها وجرائمها وعنصريّتها.

يأتي بين النصوص المؤسّسة للصهيونيّة هذا النصّ من (العهد القديم) الذي قالوا فيه: "وإذا تقدّمتَ إلى مدينة لتقاتلها، فادعُها أوّلاً إلى السلم، فإذا أجابتك بالسلم وفُتِحتْ لك أبوابها، فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت السخرة ويتعبّدون لك. وإن لم تسالمك، بل حاربتك، فحاصرتها. وأسلمها الربّ إلهك إلى يدك، فاضرب كلّ ذكرٍ بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغتنمها لنفسك... وأمّا مدن أولئك الأمم التي يعطيها لك الربّ إلهك ميراثاً فلا تستبقِ منها نسمةً، بل أبسلهم إبسالاً."[12]

وفي نصّ آخر ينضح عنصريّة وإجراماً قالوا: "فاضرب أهل تلك المدينة بحدّ السيف أبسلها بجميع ما فيها حتّى بهائمها بحدّ السيف. وجميع سلبها اجمعه إلى وسط ساحتها وأحرق بالنار تلك المدينة وجميع سلبها جملة للربّ إلهك فتكون ركاماً إلى الدهر لا تبنى من بعد."[13]

هذه مواقف إجراميّة صاغتها أقلام كتّاب العهد القديم، وهي عندهم بموقع القداسة ويتعبّدون بها، ومثل هذه النصوص هي التي هيّأت الفضاء الثقافي الذي جعل الحياة الجوّانيّة ليهود غالباً عنصريّة قابلة لكلّ أشكال العدوان بأبشع صوره.

وإذا ذهب متابع إلى محتويات النصوص التلموديّة، فإنّ الأمر نفسه يتكرّر، ومن نماذج نصوص التلمود، هذا النصّ الذي يأباه كل طبع سليم وذوق قويم، والنصّ هو: "الخارج عن دين يهود حيوان على العموم فسمّه كلباً أو حماراً أو خنزيراً, والنطفة التي هو منها هي نطفة حيوان, وقال الحاخام (أبار بانيل): المرأة غير اليهوديّة هي من الحيوانات, وخلق الله الأجنبي (غير اليهوديّ) على هيئة الإنسان ليكون لائقاً لخدمة الذين خُلِقَتْ الدنيا لأجلهم لأنّه لا يناسب لأمير أن يخدمه ليلاً ونهاراً حيوان وهو على صورته الحيوانيّة."[14]

هذا التصنيف لغير يهود على أنّهم حيوانات ولّد فكراً سياسياً أسّس للعنصريّة الصهيونيّة، وهو الذي كان وراء الممارسات الإجراميّة في فلسطين المحتلّة. وهكذا فتاريخ الحركة الصهيونيّة مشحون بالمواقف والأفعال النابعة من عنصريّتهم، وهم من يصنع فوبيا (رُهاب) يومي لملايين، وإنّ الشواهد على ذلك كثيرة منها:

1- قبل اغتصاب فلسطين جهّز الصهاينة بتمويل وتسليح بريطاني وأوروبي عصابات مسلّحة مارست القتل والتشريد والاحتلال والتخريب، وأبرز هذه العصابات: هاشومير (1909)، وفرقة البغّالة الصهيونيّة (1915)، والفيلق اليهودي (1915)، والهاغاناه (1921)،والبيتار (1923)، والإرغون (1931)، وشتيرن (1937)، واللواء اليهودي (1939 – 1945)، والجدناع (1939)، والبالماخ (1941).

2- احتلال الأراضي الفلسطينيّة، وهم من بلاد شتّى تحت مزاعم أرض الميعاد، وتشريد العرب الفلسطينيين، ومن هم في الشتات اليوم يزيدون عن سبعة ملايين، وممارسة الإجرام اليومي ضدّ من في الداخل في الأراضي المحتلّة عاميّ 1948 و1967، وهم أكثر من ستّة ملايين ونصف المليون مواطن. والجرائم تتوزّع بين القتل والتعذيب والأسر ومصادرة الممتلكات وهدم المنازل وفرض الضرائب الباهظة وغير ذلك من أشكال الإجرام.

3- مصادرة الأراضي حيث كان الصهاينة يملكون في يوم الاغتصاب في 15/5/1948 بحدود خمسة بالمئة من عموم أرض فلسطين، وبالمصادرة والإكراه باتوا يملكون اليوم قرابة تسعين في المئة من التراب الوطني الفلسطيني، هذا عدا المباني والبساتين والمنشآت.

4- هدم أو تهويد بيوت العبادة من مساجد وكنائس، أو تحويلها إلى كُنَس لهم، أو أندية للخلاعة، أو تركوها مهجورة ومنعوا استخدامها أو هدموها، وهي بالمئات، وصولاً إلى اغتصاب قسمٍ من الحرم الابراهيمي، وأعمالهم التهويديّة ضدّ الأقصى، والمقدّسات في القدس عامّة.

5- جدار الفصل العنصري حول القدس، وتمرّدهم على الإرادة الدوليّة، حيث أنّهم لم ينفذّوا حكم محكمة العدل الدوليّة الصادر في لاهاي في العام 2004.

6- الإصرار على الاحتلال ومصادرة الممتلكات في فلسطين ولأراضٍ عربيّة أخرى مثل الجولان السوري المحتلّ، ومزارع شبعا ومناطق أخرى من لبنان، والتمرّد على الإرادة الدوليّة المتمثّلة بقرارات الهيئة العامّة للأمم المتّحدة ومجلس الأمن، وما ذلك إلاّ بدعم أمريكي مفتوح مادّي وعسكري، وبحقّ النقض (ڤيتو) في مجلس الأمن.

7- لقد جاء تقرير لجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسية (الاسكوا) الأخير –الذي فجّر مشكلة- في خمس وسبعين صفحة متحدّثاً عن الممارسات العنصريّة الإسرائيليّة ضدّ الشعب الفلسطيني ممّا يؤكّد التزام العدوّ الصهيوني في سياسة الفصل العنصري (الأبارتايد)، وقد تضمّن التقرير فقرات تدلّ على الأبارتايد الإسرائيلي، نورد بعضها بشكل حرفيّ:

- تمثّل الهندسة الديمغرافية مجالاً آخر حيث تخدم السياسات غرض الحفاظ على إسرائيل دولة يهوديّة. وأشهر قانون في هذا الصدد هو (قانون العودة) الذي يمنح اليهود، أياً يكن بلدهم الأصلي في جميع أنحاء العالم، حقّ دخول إسرائيل والحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة وبصرف النظر عمّا إذا كان بوسعهم تبيان صلات بالأرض، في حين يُحجب عن الفلسطينيين أيّ حقّ مماثل.

- ويستنتج التقرير أنّ استراتيجيّة تفتيت الشعب الفلسطيني هي الأسلوب الرئيسي الذي تفرض إسرائيل به نظام الأبارتايد.

-ويشمل الفضاء الثاني قرابة (300،000) فلسطيني يعيشون في القدس الشرقيّة، ويعانون التمييز في الحصول على التعليم والرعاية الصحيّة والعمل وفي حقوق الإقامة والبناء. كما يتعرّضون لعمليا الطر وهدم المنازل التي تخدم السياسة الإسرائيليّة المُسمّاة بسياسة (التوازن الديمغرافي) لصالح السكّان اليهود.

- ويخلص التقرير إلى أنّ حجم الأدلّة يدعم بما لا يدع للشكّ مجالاً أنّ إسرائيل مذنبة بجريمة فرض نظام الأبارتايد على الشعب الفلسطيني، ما يصل إلى حدّ ارتكاب جريمة ضدّ الإنسانيّة.

إلاّ أن كلّ الأدلّة لم تحمل الأمم المتّحدة على إدانة المحتلّ الصهيوني، بل عمل الامين العام للأمم المتّحدة (غوتيرس) للضغط بتوجيه أمريكي لسحب هذا التقرير، وهذا انحياز كامل لصالح كيان عنصريّ، وكانت ردّة الفعل من سيّدة هي الأمينة العامّة للإسكوا (ريما خلف) أن قدّمت استقالتها انتصاراً للعدالة وحقوق الإنسان.

هذا العرض يؤكّد بشكلٍ جازم أنّ الصهيوفوبيا لا توازيها أيّ حالة أخرى في العالم المعاصر، لأنّه لا يوجد مواطن آخر غير الفلسطيني يعيش خارج ترابه الوطنيّ، وبعد هذا أيحقّ لأحد الحديث عن إسلاموفوبيا؟ أم الصحيح أن يتّحدّثوا عن صهيوفوبيا؟

 

2- أوروفوبيا: (Europhobia)

تفيد مراجعة تاريخ أوروبا الغربيّة أنّ هؤلاء القوم قد مارسوا الإرهاب والجريمة بأبشع الصور، وقد صنعوا الرُهاب لأمم وشعوب كثيرة في كلّ القارّات، ممّا يجعل القول بوجود (أوروفوبيا) قولاً واقعياً تؤيّده الشواهد التاريخيّة، ويكتفي كاتب هذا البحث بالإشارة إلى الأمور الآتية:

1- حروب الفرنجة: وهي حروب اصطنعوا لها شعارات دينيّة مسيحيّة، ورفع بعضهم شارة الصليب ما دفع بعض المؤرّخين إلى القول: حروب صليبيّة. وقد كانت هذه الحروب حالة اجتياح عسكري أوروبي للشرق بدءاً من القسطنطينيّة (اسطمبول) التي كانت عاصمة الكنيسة الشرقيّة إلى الأمّة العربيّة وصولاً إلى القدس، وقد غاصت الخيول بالدماء، ومارس الغزاة مع القتل السلب والنهب والتخريب، ولم يوفّروا المقدّسات، ليس للمسلمين فقط، بل اعتدوا بقسوة على مقدّسات الكنيسة الشرقيّة التي تخالفهم في بعض المفاهيم والمعتقدات.

2- استباحة سكّان القارّة الأمريكيّة الأصليين، وإبادة الغالبيّة منهم، خاصّة في القسم الشمالي للقارّة، وقد قال الأكاديمي الأمريكي اليهودي المعاصر نعوم تشومسكي في عرض ذلك ما يلي: "عندما جاء المستعمرون من إسبانيا وإنجلترا نشير إلى أنّ عدد السكّان الأصليين في غرب همسفير يمكن أن يكون تعدادهم قد قارب من مئة مليون نسمة، وربّما كان يوجد حوالي ثمانين مليون في شمال ريوجراند، وإثنا عشر مليوناً، أو ما شابه ذلك، إلى شمال النهر (نهر المسيسبي). فخلال حوالي شهر، فإنّ أولئك السكّان قد أبيدوا. فلنأخذ مثلاً منطقة شمال ريوجراند حيث كان يوجد هناك من عشرة إلى اثني عشر مليوناً من السكان الأصليين الأمريكيّين، ومع عام 1900، فإنّه لم يبقَ سوى مئتي ألف نسمة منهم فقط. أمّا في منطقتيّ الأندين ومكسيكو، فإنّه كانت هناك مجتمعات هنديّة كثيفة، إلاّ أنّ معظمها قد اختفى. فمعظمهم قد قتلوا أو أبيدوا تماماً. ... فربّما تكون واحدة من أكبر حروب الإبادة، إذا لم تكن أعظمها في التاريخ."[15]

3- استرقاق سكّان القارّة الأفريقيّة، واقتلاعهم من أرضهم ونقلهم إلى أمريكا وأوروبا للاستعباد والسخرة، وإنّ جزيرة (غوري Gorée) قبالة مدينة داكار عاصمة السنغال لا تزال بمبانيها شاهداً على هذه الصفحة المظلمة من التاريخ.

هناك في جزيرة Gorée كانوا يجمعون الناس في محابس، ويلقون في البحر كبار السنّ والمرضى، ويغتصبون الصغيرات حتّى نشأ جيل من المولودين الخلاسيين، وكانوا يعذّبون الآخرين ويسوقونهم قسراً ليستعبدونهم، وآلات التعذيب والجلد والتقييد محفوظة في خزائن مركز الاسترقاق في الجزيرة، وقد زارها كاتب هذا البحث أكثر من مرّة، وعنده صور لها، كما أنّ فقرات من خطاب البابا الأسبق يوحنّا بولس الثاني معلّقة في لوحات في المباني جاءت تقرّ وتشجب وإن بلغة غير مباشرة.

4- الأندلس (إسبانية اليوم) وما فعله الأوروبيّون من أفعال لاإنسانيّة تمثّلت في القتل والسلب، وطرد سكّان البلاد من المسلمين ومعهم يهود البلد، وتحويل المساجد إلى متاحف أوكنائس، ومن ذلك مسجد في طليطلة Tolido حوّلوه كنيسة وتركوا المحراب إشارة إلى الأصل من باب الاستفزاز والإصرار على ممارسة العنصريّة.

5- الاستعمار الأوروبي الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين للوطن العربي ومعه بلدان في آسية وأفريقية، وما رافق ذلك من جرائم وعنصريّة أبرزها ما كان في الجزائر على أيدي الفرنسيين الذين احتلّوها في العام 1830 ولم تستقلّ عنهم إلاّ في تمّوز/يوليو 1962، بعد ثورة مسلّحة بدأت في 1/11/1954 كانت تكلفتها أكثر من مليون شهيد من الجزائريين، ومتابعة ما حصل في باقي الدول من جرائم أوروبيّة يندى لها جبين الإنسانيّة.

6- زراعة الاحتلال الصهيوني في فلسطين استجابة لتقرير كاميل بنرمان في العام 1907، ووعد بلفور البريطاني في 2/11/1917، والدعم الغربي بارتباط صهيوأوروبي وصهيوأمريكي، وكان ذلك عدواناً لا مثيل له في طرد شعب من وطنه، ولا تزال الجريمة قائمة منظورة، وترافقها جرائم يوميّة بشراكة أمريكيّة ومن بعض الأوروبيين.

كلّ ما مرّ ذكره، وهو مجمل لم يرد فيه تفصيل ولا استعراض كامل، هل يفيد بوجود أوروفوبيا أم لا؟ حتّى من يمارسون إرهاباً سبّب طرح مصطلح إسلاموفوبيا، ألم تكن نشأتهم أوروبيّة وأمريكيّة؟ ثمّ ألم يستخدمهم الغرب ضدّ مواطنيهم وبلدانهم؟!

 

3- أمريكوفوبيا AmericoPhobie:

رُهاب الولايات المتّحدة الأمريكيّة الذي تعاني منه شعوب وأمم في أنحاء العمورة، يشكّل أقصى مستوى وصله الخوف المرضي في التاريخ، لأنّ الولايات المتّحدة تمارس إرهاب الدولة الذي يتمظهر في وجوه كثيرة، منها سباق التسلح، ومنها التغوّل الاقتصادي ولعبة الدولار، ومنها العولمة/الأمركة، ومنها نشر القواعد العسكريّة والأساطيل، ومنها الشراكة الكاملة مع الصهاينة في العنصريّة والتهويد والعدوان في فلسطين المحتلّة.

وبإيجاز يتناسب مع سياق البحث يمكن إجمال أسباب الأمريكوفوبيا بما يلي:

1- أصل النشأة: إنّ مجتمع الولايات المتّحدة الأمريكيّة نشأ بعد الاجتياح الأوروبي للقارّة الأمريكيّة، ومن دخلوا القسم الشمالي للقارّة كانوا من الأصوليين البريطانيين البيوريتان (Puritains) التطهّريين الذين عُرِفوا بالتعصّب والتزام التفسير الحرفي للعهد القديم، وقد شكّلوا أصل الصهيونيّة غير اليهوديّة المعروفة هذه الأيام باسم (المحافظين الجدد)؛ كما أنّ قراصنة أوروبا قد أبادوا السكّان الأصليين، واسترقّوا الأفارقة الذين أكرهوهم على الانتقال إلى أمريكا، ولا تزال العنصريّة قائمة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة ضدّ السكّان الملوّنين المتحدّرين من أصول أفريقيّة وآسيويّة.

2- استخدام السلاح النووي: لقد كانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة ولا تزال في رأس قائمة الدول التي استخدمت سلاح الردع غير التقليدي النووي وسواه، ولم تكتفِ بامتلاكه والتهديد به، بل نشرته ودعمته عند العدو الصهيوني بعد الدور الأوروبي في تأسيس مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي، وكذلك استخدمته ضدّ اليابان، وكان ذلك بتاريخ 6/8/1945 ضدّ مدينتي هيروشيما وناكازاكي، وقد سقط في هيروشيما 140 ألف ضحيّة، وفي ناكازاكي 80 ألف ضحيّة، هذا مضافاً إلى قتل كلّ أثر للحياة في المدينتين ومحيطهما، وهل من رُهاب سينشأ من حادث أكبر من هذا العدوان النووي؟

3- الغزو والعدوان الأمريكي: لقد مارست الولايات المتّحدة الأمريكيّة العدوان والاحتلال والتهديم لثلاثة بلدان في النصف القرن الأخير. أوّلها كانت حرب فيتنام (1/11/1965 – 30/4/1975) التي حصل فيها اصطفاف إقليمي ودولي، والثانية كانت الغزو العدواني الأمريكي على أفغانستان في العام (2001)، والثالث غزو العراق في نيسان/أبريل من العام 2003، وقد كان الدمار والقتل والتخريب والتهجير في كلّ واحدة من هذه الغزوات الإجراميّة. ففي العراق وحدها فاق عدد الضحايا المليون، والمهجّرون أكثر من خمسة ملايين، وقد طال التهجير المسيحيين في العراق حيث كان عددهم يوم الغزو حوالي مليون وربع المليون، والباقون في العراق اليوم هم ثلث هذا العدد. أمام هذه الحروب التدميريّة وما رافقها من احتلال وعدوان، هل يكون رُهاب شعوب هذه الدول من الأمريكي أو ما يسمّى أمريكوفوبيا، أم ننساق مع الأمريكي والغربي في القول بالإسلافوبيا.

4- أمريكوفوبيا داخل المجتمع الأمريكي: لم يكتفِ المحافظون الجدد الأمريكيّون بممارسة الإرهاب والعدوان خارج حدود الولايات المتّحدة الأمريكيّة بل مارسوه داخل مجتمعهم، كما أنّ تجّار السلاح والمال والنفط مارسوا الغلوّ في نشر المفاسد والرذائل كي ينشغل المواطن الأمريكي بها عن جرائمهم واستبدادهم واستعدادهم. ويظهر ذلك من خلال حالات نترك لأمريكيين أمر عرضها والحديث عنها، ومن ذلك:

‌أ.       "وممّا يفاقم المشكلة كميّة المخدّرات التي يستهكلها الأميركيّون، فحسب أحد التقديرات تستهلك الولايات المتّحدة، التي يبلغ عدد سكّانها ما بين 4% إلى 5% من سكّان العالم، 50% من استهلاك الكوكائين العالمي... وتغذّي المخدرات بدورها الجريمة التي يعتبر معدّلها أكبر بكثير من أيّ معدل في العالم المتطوّر. وبفضل القوّة السياسيّة لمؤسّسة البنادق تتاح الفرصة للأميركيين لحيازة الأسلحة القاتلة، واستعمالها إلى درجة تدهش المراقبين في الخارج، ويُقدّر أنّ الأميركيين يمتلكون 60 مليون مسدّساً، و120 مليون بندقيّة متنوّعة، وهم يقتلون بعضهم البعض بمعدّل يصل إلى (19000) كلّ عام وأساساً بواسطة البنادق، وتبلغ معدّلات الاغتصاب سبعة أضعاف معدّلاتها في أوروبا الغربيّة، أمّا عمليّات السرقة بالقوّة فتبلغ من أربعة إلى عشرة أضعاف."[16]

‌ب. والوجه الآخر لمحضن الرُهاب (Phobia) في مجتمع الولايات المتّحدة الأميركيّة هو السجون والتمييز العنصري ضدّ الملوّنين، وقد سجّلت التقارير أواخر القرن العشرين الماضي في هذا الميدان الوقائع الآتية: قال لويك فاكنت، الباحث الاجتماعي الأمريكي: "وواقع الأمر أنّ الولايات المتّحدة قد اختارت أن تبني لفقرائها بيوت اعتقال وعقاب بدل المستوصفات ودور الحضانة والمدارس. هكذا ومنذ عام 1994 تخطّت الموازنة السنوية لدائرة السجون في كاليفورنيا – المسؤولة عن مراكز الاعتقال للمحكومين الذين تتجاوز عقوبتهم السنة الواحدة – الموازنة المخصّصة لمختلف فروع جامعة الولاية. في كلّ حال تقدّم الحاكم (بيت ويلسون) عام 1995 بمشروع موازنة يلحظ فيه إلغاء ألف وظيفة في التعليم العالي من أجل تمويل ثلاثة آلاف وظيفة حارس سجن جديدة.

إنّ هذه المفاضلة مكلفة جداً على الأموال العامّة في كاليفورنيا إذا ما عرفنا أنّ حارس السجن يتقاضى راتباً يزيد بنسبة 30 في المئة عن راتب الأستاذ المحاضر، وذلك بسبب النفوذ السياسي الذي تتمتّع به نقابة موظّفي السجون."[17]

كما أعلنت وزارة العدل الأمريكيّة بشأن ارتفاع معدّل الجريمة، وحالة السجون عندهم، بتاريخ 22/8/1999 ما يلي: "إنّ عدد البالغين المسجونين، أو خارج القضبان بكفالة لعام 1998 بلغ خمسة ملايين و900 ألف شخص وأوضحت الوزارة أن المعتقلين، أو الذين هم خارج القضبان بكفالة، ارتفع العام الماضي بمعدّل 163,800 عن العام الذي سبق، وتعني هذه الأرقام أنّ 3 في المئة من الأميركيين؛ أي: أميركياً واحداً من 34 كانوا مع نهاية العام 1998 إمّا داخل السجن(1.8 مليون)، وإمّا خارج القضبان بكفالة (3.4 مليون)، وإمّا تحت مراقبة الشرطة (700 ألف)."[18]

وفي العام 1997 أحصت وزارة التربية في المدارس في الولايات المتّحدة الأمريكيّة (11) ألف اعتداء بالأسلحة، وسبعة آلاف سرقة، وأربعة آلاف اغتصاب أو اعتداء جنسي.

بعد هذه البيانات هل يكون من حقّ قادة واشنطن أن يقولوا: إنّ حالة رُهاب من المسلمين تتوزّع هنا وهناك؛ أم أنّ الصحيح أنّ الرُهاب هم صنّاعه داخل بلدهم وفي خارجه على المستوى العالمي؟!

 

 

خاتمة:

إنّ معالجة مرض الرُهاب (phobie – Phobia) تحتاج إلى مواثيق دوليّة تحترمها الدول والمؤسّسات عامّة أساسها راسخ في قاعدتي الرحمة والمحبّة، وهما في المنظومة القيميّة التي جاءت بها رسالات السماء لا سيّما الإسلام والمسيحيّة.

وعلى الصعيد الإسلامي والعربي، وفي إطار مواجهة مزاعم وجود الإسلاموفوبيا فإنّ الاحتكام إلى ما أصدره المسلمون والعرب في هذا المجال هو المصدر، وهو الذي يشكّل المرجعية التي تقدّم الدواء الناجع لمثل هذه الظواهر المرضيّة، وهذه المواقف موجودة في الوثائق الآتية:

1- لقد صدر عن الدورة الحادية عشرة للمؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام في منظّمة التعاون الإسلامي، بعد الانعقاد في جدّة بتاريخ 21/12/2016، الاستراتيجيّة الإعلاميّة لمنظّمة التعاون الإسلامي للتصدّي لظاهرة الإسلاموفوبيا وآليات تنفيذها، وقد حوت هذه الوثيقة الإسلاميّة مجموعة مهمّة من الأسس لمكافحة الظاهرة، وحدّدت خطوات جيّدة للمعالجة، وبيّنت كيف أن المرجعيات مع التعدّديّة الدينيّة والثقافيّة. ودعت الوثيقة إلى تنشيط الحراك من أجل "درء التعصّب ضدّ الإسلام والتمييز ضدّ المسلمين والتصدّي لهما."

2- أصدرت المنظّمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة (isesco) مجموعة وثائق في كتاب عنوانه: (الكتاب الأبيض أو الحوار بين الحضارات) ضمن منشوراتها من الرباط، وكانت الطبعة الأولى في شهر يوليو/تموز من العام 2002. ومحتويات الكتاب بعد الوثائق الدولية هي الوثائق الصادرة عن المؤسسات المنضوية تحت "منظّمة التعاون الإسلامي"، وهي تؤسّس لعلاقات على مختلف المستويات بين الأمم والشعوب تحقّق الكرامة للجميع على أسس التواصل والتسامح، وقبول الآخر، والإقرار بالتنوّع والتعدّديّة... الخ.

3- وثيقة عمّان المعنونة: (رسالة عمّان) التي صدرت بتاريخ 27 رمضان 1425 هـ - الموافق فيه 9/11/2004، والتي انطلقت من الآية (13) من سورة الحجرات التي ورد فيها: ﴿ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ﴾، ومن فقرات الرسالة: "إنّ رسالة الإسلام السمحة تتعرّض اليوم لهجمة شرسة ممّن يحاولون أن يصوّروها عدوًّا لهم، وبالتشويه والافتراء، ومن بعض الذين يدّعون الانتساب إلى الإسلام ويقومون بأفعال غير مسؤولة باسمه."

وفيها كذلك: "وقد بيّن الإسلام أنّ هدف رسالته هو تحقيق الرحمة والخير للناس أجمعين."

وتنصّ الرسالة كذلك: "إنّ شجرة الحضارة تذوي عندما يتمكّن الحقد وتنغلق الصدور، والتطرّف بكلّ أشكاله غريب عن الإسلام الذي يقوم على الاعتدال والتسامح." وجاء في الرسالة: "وفي الوقت نفسه نستهجن حملة التشويه العاتية التي تصوّر الإسلام على أنّه دين يشجّع الفتن ويؤسّس للإرهاب، وتدعو المجتمع الدولي، إلى العمل بكلّ جدّيّة على تطبيق القانون الدولي واحترام المواثيق والقرارات الدوليّة الصادرة عن الأمم المتّحدة، وإلزام كافّة الأطراف القبول بها ووضعها موضع التنفيذ."

إنّ ما حوته (رسالة عمّان) والمواثيق المذكورة في هذه الخاتمة، ومعها ما صدر عن الأزهر الشريف، وسواه من المنظّمات والمجامع في الوطن العربي والعالم الإسلامي، صالح لوقف الرُهاب Phobia والتطرّف، ودورة العنف، ولنشر المحبّة، والرحمة، والأمن والأمان، والاستقرار، هذا إذا التزم الجميع قيم الخير في مواجهة الشرّ، والعدالة في مواجهة الظلم، والحرّيّة في مواجهة العبوديّة، والاستقلال والتحرّر لكلّ تراب وطن محتلّ، وعودة كلّ حقّ مسلوب إلى أصحابه الحقيقيين.

هل يريد المصابون بمرض الخوف اللاعقلاني (Phobia) أو من يزعمون وجوده أن يسمعوا هذا الخطاب؟!

 

 

 

[1] القرطبي، أبو عبدالله محمّد بن احمد بن أبي بكر، الجامع لأحكام القرآن، ج14، تحقيق أ.د. عبدالله بن عبد المحسن التركي وآخرين، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ط1، سنة 1427هـ-2006م، ص302.

[2] ابن هشام، السيرة النبويّة، م3، تحقيق مصطفى السقّا، وابراهيم الأبياري، وعبدالحفيظ شلبي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ، ص337.

[3] أخرجه أبو داود في (السنن) في كتاب (الجهاد) في باب (في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه).

[4] أخرجه الترمذي، في (الجامع المختصر) المعروف (سنن الترمذي)، وفي كتاب (الإيمان) في باب (ما جاء في علامة المنافق)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

[5] ابن الأثير، عزالدين، الكامل في التاريخ، م2، بيروت، دار صادر، ط6، سنة 1415هـ - 1995م، ص85، 86.

[6] البلاذري، أبو الحسن، فتوح البلدان، مراجعة وتعليق رضوان محمّد رضوان، بيروت، دار الكتب العلميّة، سنة 1403 هـ- 1983م، ص 76.

[7] اليسوعي، الأب يوتمان، البطريرك طيماثوس الأول، أو الكنيسة والإسلام في العصر العبّاسي الأوّل، بيروت، دار المشرق، سنة 1977، ص31.

[8] حتّي، د فيليب، وجرجي، د أدوار، وجبّور، د. جبرائيل، تاريخ العرب، ج2، بيروت، دار الكشّاف، ط4، سنة 1965، ص 436، 437.

[9] غروزي، د. حسن، إسهام الجامعات الإسلاميّة في الحضارة الإنسانيّة، الرباط، منشورات اتّحاد جامعات العالم الإسلامي، سنة 1437 هـ- 2016م، ص88، 89.

[10] أخرجه مسلم، في (الصحيح)، في كتاب (الجهاد والسير)، في باب (تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيّته وإيّاهم بآداب الغزو وغيرها.

[11] ابن الأثير، عز الدين، م.س.، م2، ص335.

[12] العهد القديم، سفر تثنية الاشتراع، الإصحاح 20.

[13] العهد القديم، سفر تثنية الاشتراع، الإصحاح 13.

[14] روهلنج، د. أوغسطين، الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة د. ويسف نصر الله، مصر، مطبعة المعارف، ط1، سنة 1899، ص 53.

[15] تشومسكي، نعوم، تواريخ الانشقاق، حوارات أجراها ديڤيد بارساميان، ترجمة محمّد نجّار، عمّان، الأهليّة للنشر، ط1، سنة 1997، ص26.

[16] كينيدي، بول، الاستعداد للقرن الحادي والعشرين، ترجمة محمد عبد القادر، وغازي مسعود، عمّان، دار الشروق، سنة 1993، ص 376.

[17] فاكنت، لويك، البؤس والجريمة في الولايات المتحدة، في ملحق جريدة النهار الشهري، بيروت، تموز/يوليو 1998، ص 21،22.

[18] جريدة النهار، بيروت، الثلاثاء في 24/8/1999.