الأكثر رواجاً
ابحث عن

تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
مساحة إعلانية


المؤسسة العسكرية في الاسلام

بمناسبة بناء جيش سوري جديد وجدت من المناسب نشر فصل من كتابي بعنوان: المؤسسة العسكرية في الإسلام وتطلعات معاصرة.
ويحوي هذا الفصل مبادئ انشاء جيش يحمي البلاد ولا يختص بالانقلابات. عسى أن يطلع عليه المهتمون بإنشاء الجيش الوطني العتيد.
تطلعات لتنظيم قوات مسلحة
الفصل الأول:
القوات المسلحة المعاصرة
تمهيد:
تحدثنا في الفصول السابقة عن القوات المسلحة في دولة المسلمين من عهد النبي صل الله عليه وسلم إلى انتهاء الخلافة بانتهاء العهد العثماني. وبمعنى آخر اقتصر بحثنا على القوات المسلحة في دولة واحدة مترامية الأطراف، تدين بعقيدة واحدة، ويعفى فيها أبناء الأديان الأخرى من الجندية مقابل بدل نقدي، إلا إذا أرادوا القيام بواجب القتال، ولو لم تضم الدولة أقطار المسلمين كافة، ولكنها كانت في معظم الأحيان تضمُّ معظم تلك الأقطار.
وتوقف البحث بُعيد الحرب العالمية الأولى، ولم يتطرق إلى الوضع السياسي في نهاية عهد الدولة العثمانية، على الرغم من ارتباطه الوثيق بالوضع العسكري، وذلك لكي لا يتشعب البحث كثيراً. ونرى من الضروري الإشارة إلى أن البلاد العربية، وهي ذات غالبية مسلمة، كانت في أواخر العهد العثماني ناقمة على سياسة تمييز العنصر التركي، وعل إجبار المواطنين على القتال في بلاد بعيدة، وفي ظروف قاسية لأهداف لا يقتنعون بها. وما زال الناس، في بلاد الشام خاصة، يتوارثون الأحاديث عن ما كانوا يلاقونه في ما يسمونه «السفر برلك».
وإحجام العرب عن القتال تحت راية العثمانيين، ثم ثورتهم ضدها كانا السبب الرئيس لانهزامها في الحرب العالمية الأولى، وإلا لكانت تغيرت نتائج تلك الحرب، ولتغير مجرى الأحداث.
إذ كان تأثير الطيران لا يزال ضعيفاً، ودور الجندي المدرَّب والشجاع في القتال كبيراً.
والعرب والأتراك من أشجع شعوب الأرض وأكثرها تحمُّلاً للصعاب.
وعندما نتحدث الآن عن قوات مسلحة حديثة، تواجهنا تغيُّرات وتطورات كبيرة في ميدان الأسلحة، ما يجعل القوات المسلحة المنتظرة تختلف كثيراً عن الماضي في مختلف النواحي على الرغم من بقاء الجندي حتى الآن العنصر الفعال في أي معركة. إذ لا تعدُّ أي منطقة مسيطراً عليها سيطرة فعليَّة كاملة ما لم يكن الجنود على أرضها. هذا إذا استثنينا المناطق التي يمكن السيطرة عليها بالنار، وهذه المناطق لا تخضع عادةً لأي من الفريقين المتقاتلين.
ومعظم القوات المسلحة المعاصرة في مختلف الدول تقسم إلى أسلحة (صنوف) تكبر أو تصغر بحسب إمكانات كل دولة.
فهناك القوات البرية وفيها المشاة، والمدرعات، والمدفعية، والصواريخ، والهندسة، وبعض الفروع الأخرى.
ويتبعها النقل، والإدارة، والصناعات الحربية.
وهناك القوات الجوية، والقوات البحرية، وفي بعض الدول فروع لأسلحة كيمياوية وجرثومية وأسلحة ذرية وهيدروجينية وغيرها، ويطلق عليها أسلحة الدمار الشامل لما تخلِّفه من أضرار ولما تقتل من أحياء.
وتختلف التشكيلات العسكرية بين دولة وأخرى من حيث تعداد كل وحدة.
وبعض الدول تفرض على مواطنيها خدمة إلزامية لمدة معينة تختلف بين دولة وأخرى، فيما تعتمد دول أخرى على الجيوش فحسب، ولا تفرض عل مواطنيها خدمة إلزامية.
وتلحق بالقوات المسلحة قوى الأمن الداخلي والشرطة والدرك والأمن العام والمخابرات على اختلاف تسمياتها بين دولة وأخرى، وغالباً ما توضع هذه القوى على اختلافها تحت تصرُّف القوات المسلحة العسكرية في الحروب.
الجيوش العربية
بعد الحرب العالمية الأولى فرض المنتصرون (الحلفاء) شروطهم على الدولة العثمانية وتقسيم الدول العربية، بينما كان العرب يحلمون بوحدة بلادهم التي كانت ولايات تتبع الدولة العثمانية، وقيادة العالم الإسلامي من جديد، كما وعدهم الحلفاء، ليضمنوا انضمامهم إليهم وثورتهم على الدولة العثمانية.
وبما أننا تجاه واقع قائم، إن لم نقل مفروض، نرى أنه من واجبنا إلقاء نظرة على واقع الجيوش العربية قبل عرض أفكار لإنشاء قوات مسلحة في دولة مفترضة.
في بعض الدول العربية لا يُعتمد نظام الخدمة الإلزامية، ونتيجة لذلك لا يعرف معظم المواطنين استخدام السلاح ولا طرق الدفاع عن بلادهم، ولا حتى الحماية الفردية في حال تعرض البلد للعدوان.
فمن المعروف أن الحروب الحديثة لا تقتصر على المعارك في جبهات القتال، بل يعم شرورها جميع أراضي الدول المتحاربة. ويُعدُّ هذا التهاون في تحضير المواطنين للدفاع عن بلادهم وأنفسهم ومقاومة المعتدين خطأ كبيراً، وإهمالاً لا مسوِّغَ له.
وأما في الدول التي تعتمد الخدمة الإلزامية، فهناك تفاوت في جدواها لأسباب سنبينها في ما يأتي:
فهي في حدِّها الأدنى تبلغ سنتين، يمضي المجند منها عادةً ستة أشهر في التدريب، وبقية المدة خدمة في القطعات العسكرية. وفي بعض الدول تمدد الخدمة الإلزامية بسبب ظروف استثنائية لتصل إلى سنوات عدة تؤثر في مستقبل الشاب... ويسفيد الشباب في بعض الدول من الخدمة الإلزامية فيتعلمون الانضباط، واللياقة البدنية، واستخدام السلاح، وتحمُّل المسؤولية، والعمل الجماعي، والتضحية، وغير ذلك.
وفي دول أخرى تشكل الخدمة الإلزامية عقوبة، فهم يمضون مدة خدمتهم إما في بيوتهم مقابل رشاوى يقدمونها إلى ضباطهم، أو خدماً لعائلات الضباط، أو سائقين... فبدل أن يتعلموا العزَّة والكرامة واستعمال الأسلحة يتعلمون الخنوع والقبول بالمذلَّة، وتنفيذ أوامر الست والولد…، ولا يستفيدون من الخدمة الإلزامية بشيء يُذكر.
أما تشكيلات الجيوش العربية وفروعها ووحداتها واختصاصاتها فهي متشابهة ولا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في الدول الأخرى، مع اختلافات في المذاهب العسكرية تبعاً للدول الخارجية المتعامل معها. ولا يهم موضوعنا دراسة التشكيلات العسكرية ولا تعداد كل جيش، وبخاصة أن كل ذلك من الأمور العسكرية السريَّة، وإن كانت متوافرة لدى مراكز الأبحاث المتخصصة والمنتشرة في معظم الدول المتقدمة.
وأما ملاحظتنا المهمة فهي أن الدول العربية ما زالت تستورد معظم أسلحتها وذخائرها وتجهيزاتها العسكرية من الدول الخارجية، والتي غالباً ما تفرض شروطاً على الدولة المستوردة، وتحدِّد لها مجالات استخدامها، هذا إن لم تزود الأسلحة المتطورة المصدَّرة بأجهزة تعطِّلها متى تشاء.
وملاحظتنا ضرورة العمل الجاد للوصول إلى التسلح الذاتي، والحفاظ على أسراره.
الجيش والسياسة
يقال إن السياسة لم تدخل شيئاً إلا أفسدته، ولكن تدخُّل القوات المسلحة في السياسة يفسد الاثنين، وإبعاد الجيش عن السياسة لا يقلل من مكانة القوات المسلحة، ولكن طبيعة عمل السياسي تختلف عن طبيعة عمل العسكري.
فالقضية قضية اختصاص وتكامل. وقد رأينا ما آلت إليه حال العباسيين ثم الدولة الأيوبية نتيجة تدخُّل المماليك (الجيش) في شؤون الحكم، كما اطَّلعنا على أحوال الدولة العثمانية عندما تدخَّل العسكر في السياسة.
وهذه أمثلة من التاريخ، بغض النظر عمّا نشاهده في الدول المعاصرة، فالقارئ يرى ويدرك ما فعله ويفعله الذين تسلقوا السلطة بالانقلابات العسكرية، وكم أعاقوا تقدم شعوبهم ودولهم.
ولئن جاء في الأثر: اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال، فإنه يمكننا إضافة ثالث هو طالب سلطة، فلا شيء أحب إلى النفس البشرية من سلطة الأمر والنهي، حتى إنه يقال: «آخر ما ينزع الله من قلوب الصالحين حب السلطان».
وهناك طرق كثيرة يمكن للدول اعتمادها لمنع تدخُّل العسكر في السياسة، منها: حسن التوجيه، والتربية ابتداء من الأسرة مروراً بالمدارس والجامعات، والكليات الحربية، ووسائل الإعلام المختلفة. وتفعيل القاعدة الشرعية التي يلخصها الحديث الشريف: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[1] وتطبيقها على القانون، فلا يُفرض على العسكري طاعة رئيسه مثلاً إن أمره بالمشاركة في انقلاب عسكري.
يضاف إلى ذلك اختيار الضباط بعناية، ومتابعة دراسة أوضاعهم في الخدمة، ومراعاة تسليم مراكز القوة إلى ضباط ناضجين خبرة وخُلقاً وعمراً، فالشباب شعبة من الجنون، وكثيراً ما يفتقد الشاب الخبرة، فيرى الأمور من زاوية واحدة.
فليست كل الانقلابات العسكرية نتيجة مؤامرات خارجية، وليست كلها بدوافع شخصية، فبعضها نتيجة سوء ظن بالسلطة الحاكمة، ورغبة في الإصلاح، ولكن كثيراً ما تأتي النتائج عكسية لعدم إحاطة الانقلابيين بمختلف نواحي تعقيدات الحكم داخلياً وخارجياً.
إن ما ذكرناه لا يعني أن أفراد القوات المسلحة سيتحولون إلى آلات؛ فهم أبناء الشعب وآراؤهم معروفة لأسرهم وأقرانهم، وهم يُبدون آراءهم ويشكلون رأياً عامّاً، ولكن ما يحرَّم عليهم ويمنعون منه هو العمل السياسي، حتى لا يفرض العسكر آراءهم بقوة السلاح. ويمكن لمن يرغب منهم في الانخراط بالعمل السياسي الاستقالة من منصبه والانتقال إلى المجال الجديد وفق الأصول. ويمكن مشاركة أفراد القوات المسلحة في الاستفتاءات بشرط أن يتولى الإشراف عليها لجان مؤلفة من قضاة، وينقلون صناديق أوراق الاقتراع بعد ختمها في القطعات إلى أماكن الفرز بحيث لا تُعرف نتائج تصويت كل قطعة أو فرد فيها، وبذلك ينتفي تأثير القادة على عناصرهم.
كذلك فإن تقارير الأجهزة المختصة تصل إلى المسؤولين ويفترض أن تُدرس بعناية. وفي معظم الدول مجالس أمن قومي تتمثل فيها القوات المسلحة، ويؤخذ رأيها في مختلف الأمور المتعلقة بالسياسة العليا.
وفي التاريخ أمثلة لقادة عسكريين نجحوا سياسياً ولكنهم لم يتسلموا السلطة بانقلابات عسكرية ولا حكموا بقوة السلاح وسطوة المخابرات، ومن الأمثلة القريبة آيزنهاور في الولايات المتحدة، وديغول في فرنسا.
الفصل الثاني:
مقترحات تنفيذية
مدخل:
في كتب التاريخ العربية القديمة نجد تعبيرين يخصان القوات المسلحة، إذ يقسمونها إلى قسمين رئيسين: المتطوعة والمرتزقة، ولن نستعمل هذين المصطلحين، وسنستعيض عن المرتزقة باستعمال القوات النظامية، ونقصد بها الجيش بمختلف أسلحته، والأشخاص الذين اتخذوا الجندية مهنة لهم أو عملاً كباقي موظفي الدولة. وبخاصة أنه أصبح مصطلح المرتزقة يعني فئة من المقاتلين امتهنوا القتال مقابل المال، وهم على استعداد للقتال مع من يدفع لهم ولو خارج بلدانهم أو عنها.
وأما «المتطوعة» فسنستعمل بدلاً عنها «جنود الاحتياط» وإن تقاضوا بدلاً نقدياً هو دائماً رمزي لا يقارن بما يتقاضاه الجنود النظاميون.
القوات المسلحة النظامية
في عصر الذرَّة والصواريخ عابرة القارات، لم تعد قوة الجيوش تقدر بتعدادها، ولا بقوة أجساد أفرادها. وأصبح العلم والمعرفة مقدَّماً على القوة الجسدية، وإن كانت سلامة صحة العسكريين ضرورية لحُسن قيامهم بمهامهم الشاقة عادةً، حتى في أوقات السلم. والأمر الذي لا يتغير على مرِّ العصور لكسب الحرب هو ارتفاع المعنويات وقوة الإيمان بالقضية التي يعمل الجندي لأجلها. فالمعنويات العالية والإيمان بالنصر تمنح الجندي قوة أهم من جميع الأسلحة، والعمل الدؤوب وقت السلم وحسن الإعداد الشامل الذي سنتحدث عنه يعطي ثماره وقت الحرب.
وبما أن الجيوش تتألف من مستويات عدة، هي: الضباط، وضباط الصف، والجنود، نخص كل فئة ببعض الملحوظات والاقتراحات.
الضباط:
عندما سأل رجل حكيماً عن أفضل الطرق للاهتمام بابنه -الذي لم يولد بعد- وبحسن تربيته، أجابه: تأخرت كثيراً، وكان يقصد أنه كان يجب عليه حسن اختيار الأم التي ستربي الولد. وهكذا الوضع بالنسبة إلى ضباط الجيش، فمن أهم الأمور حسن اختيار فئة الضباط، لأنهم هم الذين ستناط بهم مستقبلاً مهمة تدريب جنودهم، وقيادتهم في الدفاع عن الوطن، وستكون قوى البلد تحت تصرفهم، فإن أساؤوا التصرف بها خربوا الأوطان وأضرّوا بالسكان. ومن المؤسف الإشارة إلى أنه في معظم البلاد العربية وفي كثير من الحالات لا يتقدم للعمل في القوات المسلحة إلا الذين لم يحصلوا عل درجات علمية تؤهلهم لمتابعة دراساتهم العليا، أو أولاد الفقراء والقرى الذين لا يستطيعون دفع تكاليف التعليم العالي، وهذا خطأ كبير لا يصح إهماله، وبخاصة بعد أن تعقدت الأسلحة، وأصبح العمل الفكري في الجيوش الحديثة أهم من العمل الجسدي على أهميته.
إذاً على الأجهزة المختصة أن تدرس أسرة كل طالب انتساب إلى الكليات العسكرية، وبيئته، وأخلاقه، وسمعته في المدارس التي تعلم بها، هذا بالإضافة إلى الفحوصات الطبية والجسدية والنفسية التي يخضع لها طالب الانتساب. وبالإضافة أيضاً إلى الامتحانات العلمية المناسبة، فلا يصح أن تكون الكليات العسكرية ملجأ للذين لا يحصلون على علامات تؤهلهم لمتابعة دراساتهم العليا. كما يجب أن يكون الدافع الأول لطالب الانتساب إلى القوات المسلحة هو خدمة عقيدته والدفاع عن أرضه وعرضه.
وكذلك تجب مراقبة طلاب الضباط أثناء دراستهم في الكليات العسكرية مراقبة دقيقة من قبل مختصين، وإخضاعهم إلى امتحانات جسدية ونفسية. وعند اكتشاف أي خلل في سلوك أحدهم يستغنى عنه. ولا يصح اعتماد الوساطات في هكذا أمور؛ لأنها تعدُّ من أخطر ما يمكن أن تواجهه الأمة. فطالب اليوم قائد الغد، وبيده مقدرات إن أساء التصرف بها أضر بمصالح البلاد والعباد.
بقي علينا أن نشير إلى ضرورة الاهتمام بالضابط بعد إنهاء خدمته، وتأهيله لفترة ما بعد الخدمة التي يجب أن لا تتجاوز مدَّتها سنَّ الستين، وهكذا إذا كان مؤهلاً من مختلف النواحي، فالضابط المتقاعد يملك معلومات مهمة هي ليست ملكه، وعليه تعوّد الاحتفاظ بها لنفسه في مختلف الظروف والأحوال.
صف الضباط:
إن صف الضباط، أو الرتباء في بعض التسميات، هم عماد كل الجيوش، فهم حلقة الوصل بين الضباط والجنود، وهم على اتصال مباشر مع العساكر، يعيشون معهم ويعرفون أسرارهم، وحاجاتهم، وما يرغبون به وما يشتكون منه، والناجح منهم قد يصبح ضابطاً. وهم عادة يساعدون الضباط في القيام بواجباتهم وفي التدريب، وقد تسمح مهمات بعضهم بالاطلاع على أسرار خطيرة في القوات المسلحة، لذلك يجب حسن اختيارهم، وحسن تدريبهم، وعدم إهمال مراقبتهم أثناء خدمتهم، والتأكد من أمانتهم ومعتقداتهم، وحفظهم الأسرار العسكرية في الخدمة وبعد تركهم الخدمة.
الجنود:
لا تقدر قوة الجيوش في العصر الحاضر بتعداد جنودها، بل بكفاءة هؤلاء الجنود، وإمكانتهم الجسدية وثقافتهم العسكرية، وإيمانهم العميق بقيادتهم وبعدالة ما توجههم إليه أو تفرضه عليهم، وبالاستعداد للقتال والتضحية في سبيل الدفاع عن بلادهم، ومقدساتهم، وعقيدتهم...
من هنا على الدولة الاهتمام بالنوعية أكثر من اهتمامها بالكمية، علماً بأن الجندي الأمّي لم يعد قادراً على استيعاب الأسلحة الحديثة على اختلاف أنواعها، ولا على استعمالاتها.
وبما أن ما ينفق على الجيوش غير منتج، ولا يفيد في التنمية بل يرهق في أحيان كثيرة ميزانية الدولة، في حين أنها مجبرة على الإعداد، وعلى الحرب أحياناً، للحفاظ على كيانها ومواطنيها، لذلك يجب الاقتصاد ما أمكن في تعداد القوات المسلحة النظامية، والاهتمام بكفاءتها كما ذكرنا آنفاً.
ومن الأهمية بمكان، وبالإضافة إلى تدريب العساكر على أسلحتهم واختصاصاتهم، تدريبهم على الاحتفاظ بالأسرار العسكرية، وعدم التحدث عنها في مجتمعاتهم، أو إفشاء أماكن وجودهم، وأسماء ضباطهم، وغير ذلك مما تهتم به الجيوش عادة.
وبالإضافة إلى التدريب العسكري، والاهتمام بمأكل الجنود وملبسهم، على القيادة الاهتمام بتثقيفهم العسكري والعقدي، ورفع مستواهم العلمي بشكل مستمر.
جنود الاحتياط
جنود الاحتياط يعني شباب الأمة، بل الشعب القادر على حمل السلاح كلِّه. لذلك على الدولة أن تعتمد نظام الخدمة الإلزامية على جميع الموطنين، ولكن ليس بالطريقة التي أشرنا إليها في بحثنا عن واقع بعض الجيوش. حيث تؤثر الخدمة الإلزامية في مستقبل الشباب، ونادراً ما تحقق النتائج المرجوة منها.
والذي نقترحه هو فرض الخدمة على جميع الشباب، ولمدة سنتين، على أن يجري تنفيذها بين سن ثمانية عشرة عاماً وثماني وعشرين عاماً، يختار الشاب هو بنفسه الوقت المناسب له لأداء هذه الخدمة بالتنسيق مع القيادة التي تحدد أوقات الدورات وأماكنها وأوقات الالتحاق والتسريح لكل دورة.
ويتم تقسيم سنة الخدمة الأولى إلى أجزاء أو أقسام.
القسم الأول من الخدمة مدته سنة كاملة، ثلاثة الأشهر الأولى يمضيها في التدريب الأولي المعروف في كل الجيوش، وباقي المدة يمضيها في القطعات إن كانت خدمته في سلاح المشاة بحسب ما ترتئيه القيادة، التي يعود إليها تعيين السلاح الذي ترى أن يؤدي المجند خدمته فيه، مع أخذ رغبته بالاعتبار ما أمكن ذلك.
وأما الذين يخدمون في بقية الاختصاصات فيمضون ثلاثة أشهر في التدريب الأولي، وما بين ثلاثة إلى ستة أشهر التالية في مدارس الاختصاص، وبقية المدة في القطعات، ويراعى التمييزبين المجندين بحسب ثقافاتهم واختصاصاتهم الدراسية، ولا يصح المساواة في التدريب والاختصاص ورتب الاحتياط بين الأمي وحامل شهادة عليا مثلاً.
وأما سنة الخدمة الثانية فتقسم إلى اثني عشر شهراً، يؤدي من أنهى سنته الأولى من الخدمة في كل سنة لاحقة شهراً يختار هو وقته، يستعيد فيه معلوماته العسكرية ولياقته البدنية، ويطلع على الأسلحة الجديدة، ويبقى بذلك على صلة بالقوات المسلحة، ويستمر ذلك بالنسبة إلى الذين أنهوا السنة الأولى من الخدمة الإلزامية في عمر الثانية والعشرين إلى سن الأربعين، بينما ينتهي من أنهى سنته الأولى من الخدمة الإلزامية في سن تسعة عشر عاماً في سن الواحد والثلاثين.
وبذلك لا تفسد الجندية الإلزامية على المواطن مخططاته لحياته، وتضمن الدولة قدرة شعبها على حمايتها والدفاع عنها.
وعلى القيادة تحديد جدول زمني للأوقات التي يسمح فيها للراغبين بالالتحاق لتمضية شهر الاحتياط كل سنة، وتعيين أماكن التحاق مجندي كل منطقة.
ويفترض صدور تشريعات تضمن استمرار دفع راتب شهر الاحتياط المذكور لكل الشباب إن كانوا يعملون موظفين في الدولة أو مؤسسات خاصة، أما أصحاب الأعمال الحرة والمزارعين فيدفع لهم تعويض مناسب عن شهر الخدمة.
ولا يعفى وحيد أبويه أو أحدهما من خدمة سنة واحدة، ولكن يعفى من متابعة التدريب سنة ثانية، ومن الدعوة إلى الاحتياط والمشاركة الفعلية في الحرب، ويمكن الاستفادة من هؤلاء في الخدمات الثابتة عند الضرورة القصوى، فلا يصح أن يبقى مواطن لا يحسن استعمال السلاح ليدافع عن نفسه عند الحاجة.
والأميون من الجنود يجب أن يخضعوا أثناء تأدية الخدمة في السنة الأولى إلى دورات تعليم أميين، إن كان ذلك أثناء التدريب الأولي أو في القطعات، حيث يجب أن ينظم تعليم الأميين في القطعات باستمرار.
وأما الشابات فيتم تدريبهن في المدارس والجامعات على الانضباط والانتظام واستعمال السلاح، وأن يخصص لذلك ساعات تدريبية وبرامج خاصة، مع مراعاة التركيز على التمريض والإسعافات الأولية ومداواة الجرحى الذي يجب أن تتقنه نساء الأمة كلهن.
ولا يعني هذا انتقاص حق المرأة في المجتمع وواجبها في الدفاع عن وطنها مثل الرجل، لأن ما يمكن أن تقوم به المرأة في مجالات كثيرة أهم مما يقوم به الرجل. والقضية هي اختصاص وتكامل بحسب مؤهلات كل جنس التي أهَّله لها خالقه عزَّ وجلَّ.
والخلاصة: ينبغي أن يكون الشعب كله مدرَّباً، وأن يكون مهيئاً للقتال عندما تدعو الحاجة، وأن يندفع إلى القتال عن عقيدته ومقدساته وأرضه من تلقاء نفسه، وأن يثق بالنصر ولا يهتم كثيراً للتضحية بالأموال والأنفس؛ لأن الموت ليس نهاية الحياة، بل نهاية الحياة الدنيا فحسب.
وهذا يتطلب أيضاً أن يعرف كل مواطن تعبئته في أي وحدة عسكرية، وكلمات السر التي تذاع في مختلف وسائل الإعلام داعية الاحتياط، فيلتحق كل مدعو في وحدته فور سماعها. ويتم إجراء تجارب عملية على الاستدعاء وقت السلم؛ ليسهل تنفيذ ذلك وقت الحرب.
حرس الحدود
توكل إلى القوات المسلحة في معظم الدول مهمة حماية الحدود، وبعض الدول تشكِّل وحدات خاصة لهذه الغاية، وبعضها يعتمد الجيش النظامي والشرطة والدرك. وعندما تكون دولة ما على عداء مع دولة مجاورة أو أكثر فإن توزيع وحدات من الجيش على الحدود وإنشاء مخافر ثابتة ونقاط استناد وخنادق وتحصينات يرهق الجيش ويستنزف خزينة الدولة مادياً.
لذلك نقترح التقليل قدر الإمكان من الاعتماد على الجيش أو حرس الحدود وحده، وذلك بالاعتماد على سكان قرى الحدود، وإنشاء قرى حدودية إن لم توجد قرى بشكل طبيعي، وأن يتم بناء هذه القرى عل شكل نقاط استناد متآزرة ومجهزة بتحصينات وملاجئ وأبنية ملائمة للدفاع والقتال، أو على الأقل تأخير تقدم العدو مدَّة كافية لتحرك الاحتياط الذي يمكن توزيع مقرّاته بعيداً عن الحدود، وفي أمكنة يسهل التحرك منها، ويمكن متابعة التدريب فيها.
وهذا يتطلب تدريب سكان تلك القرى على استعمال وسائل الاتصال، وعلى القتال، ودقة الملاحظة، بحيث يشكل كل واحد منهم خفيراً، وجندياً عند الحاجة، ويمارس أعماله الطبيعية في الأوقات العادية.
وتُجهَّز القرى المشار إليها بوسائل اتصال مناسبة، وأسلحة وذخائر كافية، للاشتباك الأولي في حال حصول أي اعتداء.
ويشبه ما نقترحه ما فعله أجدادنا عندما أسسوا الثغور والرباطات والمسالح، كما ذكرنا في موقعه من هذا البحث. وقد رأينا كم أدت تلك المواقع من خدمات. وبهذه الطريقة نقلل من مصاريف حماية الحدود، ولا تضيِّع القوات المسلحة وقتها، الذي يجب أن تصرفه في التدريب، في الحراسات والمراقبة، وإنما تشكل احتياطاً قويّاً جاهزاً للزجِّ به عند الحاجة وفور الإنذار أو الاشتباك مع عناصر القرى الحدودية المؤهلة للإنذار والقتال.
أسلحة الدمار الشامل
أسلحة الدمار الشامل، من ذَرّيَّة، وغازات سامَّة، وجرثومية، كلها محرمة دولياً، ومحرمة إسلامياً، لأنه لا يجوز في الإسلام قتل غير المقاتلين، وأسلحة الدمار الشامل تقضي على جميع الناس من مقاتلين وغيرهم، ومع ذلك وطالما هي متوافرة عند الأعداء، فيجب أن تكون لدينا أسلحة دمار شامل عقلاً وشرعاً بحسب أمر الله عز وجل {وأعِدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}[2].
والآية واضحة جلية تأمر بالإعداد ولا تأمر بالاعتداء، ولا علاقة لها بالإرهاب والعمليات الإرهابية المعروفة في العصر الحاضر، والتي تطال الأبرياء من غير المقاتلين، ومن غير الأعداء في كثير من الأحيان. ولو تمعَّنّا في مدلول الآية لوجدنا أن الإعداد المطلوب يؤدي إلى السلام. فطالما أن المسلمين وإن ملكوا القوة المشار إليها، فهم مأمورون بعدم استعمالها وبعدم العدوان ولو كانوا قادرين عليه. فعندما يكونون قادرين على ردِّ العدوان، يحجم العدو عن الاعتداء ويحصل ما يسمى بتوازن الرعب، فينتفي القتال والخراب والدمار ويسود السلام.
هذا بالنسبة لضرورة الإعداد العسكري، ويبقى علينا أن نشير إلى تهيئة الأمة بكافة أفرادها وتدريبهم على طرائق التصرف في حال تعرضهم إلى العدوان بأسلحة الدمار الشامل، وطرق الوقاية من آثاره الخبيثة.
فهناك احتياطات وإسعافات أولية يجب أن يعرفها المواطنون، وهذه تُعدُّ من الثقافة العامة التي لا يصحُّ الجهل بها. وكذلك يجب تحضير ملاجئ محصنة ضد الذرَّة، وأقنعة وتجهيزات الحماية من الغازات السامة والإشعاعات النووية، ويدرَّب عليها المواطنون أثناء السلم ليستطيعوا تجاوز المحنة أثناء الحرب.
([1]) رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الأوسط، وغيرهما.