بيان وزاري

ربما كانت خطبة أبي بكر الصديق عند توليه الخلافة أقصر بيان يشرح خطته للحكم، فهي تشبه ما يسمى في العصر الحاضر "خطبة العرش"، أو بيان الوزاري لحكومة جديدة. ولكنها في مضمونها شاملة معظم سياسة الدولة. قال: "أيها الناس: فإني قد وصيت عليكم ولست بخيركم" وفي هذا دليل على الانتخاب لا الاغتصاب. إذ قال: وُليت ولم يقل تسلمت. وأما قوله: ولست بخيركم، فهو إقرار منه بأنه قد يوجد في الأمة من هو خير منه. ولكن طالما انتخب هو، فطاعته واجبة "وإنما أنا متبع ولست بمبتدع" وفي هذه الكلمات الموجزة يؤكد تطبيقه الدستور "فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني" هنا يؤكد أنه قد يصيب وقد يخطئ كأي إنسان، فهو غير معصوم ككل البشر. وعلى الأمة أو ممثلوها مساعدته ومراقبته ونصحه وتنبيهه، فكأنما يقرر حقاً للمعارضة كما تسمى في العصر الحاضر.

"الصدق أمانة والكذب خيانة" وهنا يقرر قاعدة عامة توجب صدق الحاكم مع رعيته. أي العلنية وعدم إخفاء الحقائق. وصدق الرعية مع الحاكم من دون نفاق، أو تآمر.

"الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله". أي لا مداهنة لقوي، والجميع متساوون أمام القانون، من دون تمييز، أو محاباة لكسب مؤيدين ومصفقين. ولا خوف من معارضين قادرين وهذا ما يسمى في العصر الحاضر سيادة القانون، واستقلال القضاء.

"لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل". والجهاد يعني القتال دفاعاً عن النفس والدين والعرض والأرض. وملخص ما يعنيه الاهتمام بقوة الدولة، للدفاع عن مواطنيها وأراضيها. وبحث الجهاد طويل والآراء فيه مختلفة، وما يهمنا هنا أن قوة الدولة تشكل ما يسمى "توازن القوى" أو "توازن الرعب" فيرهبها أعداؤها وتضمن السلام.

ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء" وهنا يؤكد على أن الدولة ستمنع شيوع الفاحشة، فالمجتمع الذي يعمه الفساد والشهوات على اختلافها مجتمع منحل لا خير فيه.

أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، وهذا مبدأ مهم، وقاعدة جليلة في الحكم، إذ يطاع الحاكم ما زال ملتزماً بالشريعة. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وبالتعبير الحديث على الحاكم الالتزام بالدستور، فإن خالفه، فلا طاعة له، وعلى الأمة تقويمه بالطرق المناسبة. وأظن أن ما ورد في هذه الخطبة يشكل قاعدة عامة لحكم مثالي، والله أعلم. وهذه المبادئ مقتبسة من مقدمات كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" لابن أبي الربيع تحقيق أسعد سحمراني وأحمد راتب عرموش. أما الكتاب ففيه مباحث رائعة عن الأخلاق وأقسامها، والسياسات وأحكامها، وشروط الحاكم والتوريث، وواجبات الحاكم والمحكوم، وكيفية اختيار الأعوان، ويختم بوصايا ونوادر تتعلق بالملك والحكم.