الأكثر رواجاً
ابحث عن
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
مساحة إعلانية
تصنيع القادة
حب السلطة والقيادة وإصدار الأوامر فطرة إنسانية كحب التملك، وهو يتفاوت بين إنسان وآخر، كما تتفاوت مؤهلات القيادة. وأذكر من صغري مثلاً لمحاضر ذكر للتدليل على ذلك: انظروا إلى يافعين يلعبون الكرة في الشارع، فستجدون أحدهم يقف وينادي: من معي؟ فيقف خلفه فريقه. ويقف آخر مقابله وينادي أيضاً، من معي؟ فيصطف خلفه الفريق المقابل له. بينما تجد واحداً يسأل: أنا مع مين؟ وهذا لاريب يفتقد مؤهلات القيادة.. وأما اللذان تزعما الفريقين فنزعة القيادة بارزة عندهما. وبقية الفريقين عاديون. وهكذا تركيبة أي مجتمع.
والقيادة تعنى كل من يخوله مركزه إصدار الأوامر إلى مجموعة تعمل تحت إدارته وقيادته. وعلى الرغم من أهمية تدريب القادة من مختلف المستويات، يبقى مركز رئيس الدولة، القائد العام، الأجدر بالاهتمام والتشذيب والتهذيب، ولهذا يقال فلان تربية ملوكية، ولهذا أيضاً على المواطنين حسن اختيار رؤسائهم ممن لا تفسدهم السلطة. لأن السلطة مغرية، والرسول (ص) يقول: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة) [البخاري]. واستناداً إلى رفض الرسول (ص) في عدة حالات تولية من طلبها، نعتمد قاعدة "طالب الولاية لا يولى". لأن الذي يطلبها إنما يطلبها في معظم الحالات لاستغلالها بمختلف الطرق.
لهذا ينبغي تربية الأجيال أن المناصب هي لخدمة الناس لا للاستعلاء عليهم واستغلالهم ولا لتوظيفها لمصالح شخصية أو عائلية. ونظراً لأهمية منصب الرئيس أو الحاكم، ولتشابك العلاقات الدولية في ظل فوارق كبيرة بين دول قوية وأخرى ضعيفة، ودول غنية وأخرى فقيرة، ودول كبرى وأخرى صغرى، ودول مستعمِرة وأخرى مستعمَرة، وانطلاقاً من نزعة السيطرة والاستغلال عند الدول كما عند الأفراد تعمل الدول القوية على نهب ثروات الدول الضعيفة.
وفي العقود الأخيرة تغيرت طرق الاستغلال ونهب خيرات الآخرين. فتحول الاستعمار الاحتلالي الاستيطاني إلى استعمار بالواسطة. وفرض حكامٍ أو حزب يمكن للدول الكبرى تنفيذ مآربها عن طريقهم. فتغري هؤلاء بالسلطة والنفوذ والجاه والمال، وبما أنهم يدركون خطر معاندتهم خطط داعمهم ومخالفتها يرضخون لما يطلب منهم على حساب شعوبهم، وكل من يخرج عما رسم له تكون عاقبته العزل وحرمانه المنصب والمكاسب وربما قتله، ولسنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة بكل من شعر بقوته، وحاول الاستقلال الفعلي بمواقفه، فتلاعب بالدور المرسوم له. وخرج عن النص كما يفعل بعض الممثلين على المسرح.
وليس تصنيع زعيم، من قبل دولة كبرى في دولة صغرى بالأمر الهين. إذ يجب أن تنطلي وطنيته على مواطنيه. ويبدأ تصنيع الزعيم من حسن الاختيار فالخطأ مكلف. وبعد ذلك تبدأ عملية الدعاية. فالدولة المستعمرة مثلاً، قد تلجأ إلى أحد عاشقي السلطة، فتسمح له بمعارضتها، والظهور بمظهر المقاوم للاستعمار، ولا تمانع ببعض الاعتداءات على جنودها، حتى إذا عرف بمقاومته للاستعمار رضخت لمطالبه وانهت احتلالها لبلده، واعتمدته لتنفيذ مخططاتها، وقد تعقد معه معاهدات تمتص بموجبها خيرات البلد. في حين تعمل دعايتها ووسائل إعلامها على ابرازه زعيماً وطنياً مناهضاً للاستعمار.
ومن خبث الدول الكبرى، التي تنفذ مخابراتها خلاف ما يدعيه سياسيوها في كثير من الأحيان، أنني قرأت مرة في مذكرات أحد كبار رجال المخابرات أن دولته كانت كلما لاحظت هبوط شعبية زعيم إحدى الدول المعادية للمحتل الصهيوني، توعز إلى المحتل ليزيد من مهاجمته ذلك الزعيم لترفع شعبيته.
كل هذا يجعل مسؤولية المواطن كبيرة في حسن اختيار زعمائه، لصعوبة الوصول إلى الحقائق في ظل طغيان الإعلام. ولا بد من وجود أحزاب تقوم بالمهمة عن المواطنين فرادى، وتفضح ما تحاول الدول الكبرى والحكومات إخفاءه فلا تبقى الشعوب كالزوج المخدوع.
أحمد راتب عرموش
بيروت في 06/02/2023