الأكثر رواجاً

التاريخ الاسلامي الوجيز

يؤرخ لدول المسلمين من بداية ظهور الإسلام وحتى الانقلاب…

القواعد الفقهية في كنز الراغبين للمحلي

الإلمام بالقواعد الفقهيَّة ضروري لكل طالب علم ولكل…

إعراب القرآن الكريم كبير

أعربت كلمات وجمل كل صفحة من المصحف في الصفحة ذاتها،…

ابحث عن

مؤسس الدار : أحمد راتب عرموش
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
 

مساحة إعلانية

 
تمت اضافة خاطرة جديدة ضمن اخترنا لك بعنوان: حول معارض الكتب........................ تم رفع كتاب النشاط السري اليهودي للأستاذ غازي فريج ضمن الكتب المجانية
 
 

طبائع الاستبداد مصارع الاستعباد

ما هو الاستبداد

الاستبداد، لغة: هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة.

ويراد بالاستبداد، عند إطلاقه، استبداد الحكومات الخاصَّة، لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. وأما تحكُّم النفس على العقل ، وتحكُّم الأب والأستاذ والزوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، فيوصف بالاستبداد مجازاً أو مع الإضافة.

الاستبداد في اصطلاح السياسيين، هو تصرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة، وقد تَطْرُقُ مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي، فيستعملون في مقام كلمة (استبداد) كلمة: استعباد، واعتساف، وتسلُّط، وتحكُّم، وفي مقابلتها كلمات: مساواة، وحسّ مشترك، وتكافؤ، وسلطة عامة. ويستعملون في مقام صفة (مستبد) كلمات: جبار، وطاغية، وحاكم بأمره، وحاكم مطلق. وفي مقابله (حكومة مستبدة) كلمات: عادلة، ومسؤولة، ومقيدة، ودستورية. ويستعملون في مقام وصف الرعية (المستبَد عليهم) كلمات: أسرى، ومستصغرين، وبؤساء، ومستنبتين، وفي مقابلتها: أحرار، وأُباة، وأحياء، وأعزّاء.

هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات، وأمّا تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً، أو حكماً، التي تتصرَّف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين. وتفسير ذلك هو كون الحكومة إمّا هي غير مُكلَّفة بتطبيق تصرُّفها على شريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمَّة، وهذه حالة الحكومات المُطلقة. أو هي مقيَّدة بنوع من ذلك، ولكنَّها تملك بنفوذها إبطال قوَّة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمِّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية.

وأشكال الحكومة المستبدَّة كثيرة ليس هذا البحث محلُّ تفصيلها. ويكفي هنا الإشارة إلى أنَّ صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك في الرَّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدِّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتِّفاق أضرَّ من استبداد الفرد. ويشمل أيضاً الحكومة الدستورية المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوَّة التشريع عن قوَّة التَّنفيذ وعن قوَّة المراقبة؛ لأنَّ الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المُنَفِّذُون مسؤولين لدى المشترعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمَّة، تلك الأمَّة التي تعرف أنَّها صاحبة الشّأن كلّه، وتعرف أنْ تراقب وأنْ تتقاضى الحساب.

وأشدُّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أنْ نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً. وكذلك يخفُّ الاستبداد طبعاً كلَّما قلَّ عدد نفوس الرَّعية، وقلَّ الارتباط بالأملاك الثابتة، وقلَّ التفاوت في الثروة، وكلَّما ترقَّى الشعب في المعارف.

إنَّ الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد؛ ما لم تكن تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه، كما جرى في صدر الإسلام في ما نُقِم على عثمان، ثمَّ على عليٍّ رضي الله عنهما، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس.

ومن الأمور المقرَّرة طبيعة وتاريخاً‌ أنَّه؛ ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التَّمكُّن من إغفالها إلا وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمُّ معائب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدِّنة -نوعاً ما- من الجهالة، ولكنْ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتى ربما يصح أن يقال: إنَّ مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أنْ ينتقم! نعم؛ إذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنَيْن إلى قرن آخر أيضاً تنهك تجلُّد الأمم، وتجعلها تسقط دفعة واحدة. ومن يدري كم يتعجب رجال الاستقبال من تَرَقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّياً مقروناً باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة؛ لأنَّ تلك لا تتجاوز التعب وضياع الأوقات، وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمَّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشَّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمَّة الإنفاق الذي لا يطاق؛ وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى.

ولنرجع لأصل البحث فأقول: لا يُعهد في تاريخ الحكومات المدنية استمرار حكومة مسؤولة مدَّة أكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف، وما شذَّ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في إنكلترا، والسبب يقظة الإنكليز الذين لا يُسكرهم انتصار، ولا يُخملهم انكسار، فلا يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم، حتَّى أنَّ الوزارة هي تنتخب للملك خَدَمَهُ وحَشَمَهُ فضلاً عن الزوجة والصِّهر، وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون كلَّ شيء ما عدا التّاج، لو تسنّى الآن لأحدهم الاستبداد لَغَنِمَهُ حالاً، ولكنْ هيهات أنْ يظفر بغرَّة من قومه يستلم فيها زمام الجيش.

أمّا الحكومات البدويَّة التي تتألَّف رعيتها كلها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية، يسهل عليهم الرحيل والتَّفرُّق متى مسَّتْ حكومتُهم حرِّيَّتهم الشخصية، وسامتْهم ضيماً، ولم يقووا على الاستنصاف؛ فهذه الحكومات قلَّما اندفعت إلى الاستبداد. وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب، فإنَّهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبَّع وحِمْيَر وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة. وأصل الحكمة في أنَّ الحالة البدوية بعيدة بالجملة عن الوقوع تحت نير الاستبداد، وهو أنَّ نشأة البدوي نشأة استقلالية؛ بحيث كل فرد يمكنه أنْ يعتمد في معيشته على نفسه فقط، خلافاً لقاعدة الإنسان المدني الطبع، تلك القاعدة التي أصبحت سخرية عند علماء الاجتماع المتأخِّرين، القائلين بأنَّ الإنسان من الحيوانات التي تعيش أسراباً في كهوف ومسارح مخصوصة، وأمّا الآن فقد صار من الحيوان الذي متى انتهت حضانته؛ عليه أنْ يعيش مستقلاً بذاته، غير متعلِّق بأقاربه وقومه كل الارتباط، ولا مرتبط ببيته وبلده كل التَّعلُّق، كما هي معيشة أكثر الإنكليز والأمريكان الذين يفتكر الفرد منهم أنَّ تعلُّقه بقومه وحكومته ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية، خلافاً للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين.

النّاظر في أحوال الأمم يرى أنَّ الأُسراء يعيشون متلاصقين متراكمين، يتحفَّظُ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد، كالغنم تلتفُّ حول بعضها إذا ذعرها الذئب، أمّا العشائر والأمم الحرَّة المالك أفرادها الاستقلالَ الناجز فيعيشون مُتَفرِّقين.

وقد تكلَّم بعض الحكماء ، لا سيَّما المتأخِّرون منهم، في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تُصوِّر في الأذهان شقاء الإنسان، كأنَّها تقول له: هذا عدوّك فانظر ماذا تصنع، ومن هذه الجمل قولهم:

«المستبدُّ يتحكَّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النطق بالحقِّ والتداعي لمطالبته».

«المستبدُّ عدو الحقِّ، عدو الحرِّية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحريَّة أمُّهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إنْ أيقظوهم هبّوا، وإنْ دعوهم لبّوا، وإلا فيتَّصل نومهم بالموت».

«المستبدُّ يتجاوز الحدَّ ما لم يرَ حاجزاً من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم، كما يقال: الاستعداد للحرب يمنع الحرب».

«المستبد إنسانٌ مستعدٌّ بالطبع للشرِّ وبالإلجاء للخير، فعلى الرعيَّة أنْ تعرف ما هو الخير وما هو الشرُّ فتلجئ حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفي للإلجاء مجرَّد الطَّلب إذا علم الحاكم أنَّ وراء القول فعلاً. ومن المعلوم أنَّ مجرد الاستعداد للفعل فعل يكفي شرَّ الاستبداد».

«المستبد يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصيد كله، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمَتْ أو حُرِمَتْ حتَّى من العظام. نعم على الرّعية أن تعرف مقامها، هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟.. والرَّعية العاقلة تقيِّد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزمام وإنْ صال ربطته».

من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله، جلَّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرّاً، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أنْ يكون عبداً قائده الجهل. خَلَقَه وسخَّر له أمَّاً وأباً يقومان بأوده إلى أن يبلغ أشدَّه، ثمَّ جعل له الأرض أمّاً والعمل أباً، فَكَفَر وما رضي إلا أن تكون أَمته أمّه وحاكمه أباه. خَلَقَ له إدراكاً ليهتدي إلى معاشه ويتقي مهلكه، وعيْنَيْن ليبصر، ورجلين ليسعى، ويدين ليعمل، ولساناً ليكون ترجماناً عن ضميره، فكَفر وما أحبَّ إلا أنْ يكون كالأبله الأعمى، الـمُقعد، الأشلّ، الكذوب، ينتظر كُلَّ شيء من غيره، وقلَّما يطابق لسانه جنانه. خَلَقَهُ منفرداً غير متَّصل بغيره ليملك اختياره في حركته وسكونه، فكَفَرَ وما استطاب إلا الارتباط في أرض محدودة سمَّاها الوطن، وتشابك بالناس ما استطاع اشتباك تظالُم لا اشتباك تعاون... خلَقه ليشكره على جعله عنصراً حيّاً بعد أن كان تراباً، وليلجأ إليه عند الفزع تثبيتاً للجنان، وليستند عليه عند العزم دفعاً للتردُّد، وليثق بمكافأته أو مجازاته على الأعمال، فكفرَ وأبى شُكْرَه وخَلَطَ في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره. خَلَقَه يطلب منفعته جاعلاً رائده الوجدان، فكفر، واستحلَّ المنفعة بأي وجه كان، فلا يتعفَّف عن محظور صغير إلا توصُّلاً لمُحرَّم كبير. خلقه وبذل له مواد الحياة، من نور ونسيم ونبات وحيوان ومعادن وعناصر مكنوزة في خزائن الطبيعة، بمقادير ناطقة بلسان الحال بأنَّ واهب الحياة حكيم خبير جعل مواد الحياة أكثر لزوماً في ذاته، أكثر وجوداً وابتذالاً، فكَفَرَ الإنسانُ نعمةَ الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه، فوكله ربُّه إلى نفسه، وابتلاه بظلم نفسه وظُلم جنسه، وهكذا كان الإنسان ظلوماً كفوراً.

الاستبداد يَدُ الله القويَّة الخفيَّة يصفعُ بها رقاب الآبقين من جنّة عبوديَّته إلى جهنَّم عبودية المستبدِّين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندونه جهاراً، وقد ورد في الخبر: (الظالم سيف الله، ينتقم به، ثمَّ ينتقم منه)، كما جاء في أثرٍ آخر: (مَن أعان ظالماً على ظلمه سلَّطَه الله عليه)، ولا شك في أن إعانة الظالم تبتدئ من مجرَّد الإقامة على أرضه.

الاستبداد هو نار غضب الله في الدنيا، والجحيم نار غضبه في الآخرة، وقد خلق الله النار أقوى المطهِّرات، فيُطَهِّر بها في الدنيا دَنَس مَن خلقهم أحراراً، وبسط لهم الأرض واسعة، وبذلَ فيها رزقهم، فكفروا بنعمته، ورضخوا للاستعباد والتظالم.

الاستبداد أعظم بلاء، يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة. نعم؛ الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن، وجَدْب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي. وإذا سأل سائل: لماذا يبتلي الله عبادَه بالمستبدّين؟ فأبلغُ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً، فلا يولّي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كل فرد من أُسَراء الاستبداد مستبداً في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره.

فالمستبدون يتولّاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: (كما تكونوا يولّى عليكم).

ما أليق بالأسير في أرض أن يتحول عنها إلى حيث يملك حريته، فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط.