الأكثر رواجاً
ابحث عن

تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
مساحة إعلانية


وامعتصماه

"قصة من تاريخنا"
بقلم: أحمد راتب عرموش
في إحدى قاعات القصر الكبير في قلعة "البذ" كان "بابك الخرّمي" يزرع القاعة ذهاباً وإياباً مطرق الرأس منحني الظهر، ثم توقف بحركة لا شعورية أمام إحدى النوافذ، وسرح بنظره بعيداً.
لم يكن في المنظر ما يلفت الانتباه، فالثلوج تغطي كل شي في المكان منذ أشهر. لكن بابك كان في الواقع ينظر إلى الثلج ويسرح بتفكيره إلى ما بعد ذوبانه، ويحاول التنبؤ بما يمكن أن يحدث بعده.
إنه منقطع عن العالم تماماً، وعن الأخبار تالياً، فالطرقات تقطعها الثلوج، وجواسيسه يشتريهم "الإفشين"، فيقلون يوماً بعد يوم. وأخذت تطرق رأسه وساوس وأمور مختلفة، ومتضاربة، منها أن المسلمين العرب افتتحوا بلاد فارس بحدِّ السيف، وقضوا على مُلك الأكاسرة، والحضارة الساسانية، ولم يلبث السكان كثيراً حتى اعتنقوا الإسلام. لاريب أن الناس رعاع وغوغاء. كيف يتركون دينهم، ودين آبائهم وأجدادهم، ويعتنقون دين محتليهم؟!
يقولون: "الناس على دين ملوكهم"، ومن هو الملك؟ إنه إنسان كغيره من البشر، ولماذا يكون عربياً ولا يكون فارسياً؟ إن العرب يتحكمون بنا بالإسلام. فلماذا لا أظهر الإسلام وأعمل ضده من داخله؟ لا، إنه أمر صعب... ولا تلبث أن تظهر الحيلة. الأفضل محاربتهم بعقيدة تشدُّ الناس أكثر من الإسلام إن الخرمية عقيدة رائعة يمكن أن يلتفَّ حولها الشباب والفقراء والفلاحون...
سيسّر الشباب بإشباع غرائزهم، وسيسرُّ الفلاحون بتملك الأراضي التي يعملون فيها، وأنا سأملكم وما يملكون. سأترك لأعواني الحبل على غاربه وبذلك يخلصون لي وبهم سأحكم كما أريد، وسأطرد العرب والمسلمين من بلاد فارس بالقوة كما استولوا عليها بالقوة..
وسأعلن للناس أن كل شيء هو لهم وفي خدمتهم، وهم سيصدقون ذلك... فمعظم الناس دهماء يمكن التلاعب بعواطفهم، تقول لهم: أنتم تملكون كل شيء وفي واقع الحال أنت تملكهم وما يملكون. إنها فكرة رائعة، حقاً إنها فكرة رائعة.
وبينما كان بابك يردد الجملة الأخيرة بصوت منخفض، وكأنه يحدث نفسه، أحس بيد ناعمة تلمس طرف خده من ورائه وتسأله: ما هي الفكرة الرائعة يا سيدي؟
التفت نحوها، وابتسم لها، وقال:
- أهلاً فيروز، صباح الخير
- صباح الخيرات، أخبرني ما هي الفكرة الرائعة؟
- أن أعلن للشعب أنه يملك كل شيء شراكة، وفي الواقع اتصرف بالشعب وبما يملك.
- وكيف يكون ذلك؟
- معظم الناس رعاع وغوغاء، والإنسان بطبيعته لا يعجبه حال...
ويرى أن لا عدالة على وجه الأرض... ولهذا يسهل إثارة حقد العامة، وهم الأكثرية، على الخاصة، وهم الأقلية، وعندما أقود حركات الغوغاء، وتعمُّ الفوضى، يفقد الأغنياء ميزاتهم وأموالهم، يؤول إلي وإلى مساعدي من الانتهازيين والمنافقين إدارة شؤون الناس. وهكذا نملكهم هم وما ندعي أننا ملكناهم إياه.
ضحكت فيروز الخبيثة وقالت:
- لو أن سيدي فكَّر في الوقت الحاضر بما يعدُّه له "الإفشين" بعد ذوبان الثلوج وبدء فصل الربيع لكان أفضل لنا جميعاً.
- إكفهر وجه "بابك" فقد أعادته الخبيثة إلى واقع الحال وما كان يفكر فيه قبل شرود أفكاره. فأطرق وأخذ يدور في ذهنه: كيف أنتصر على جيش المعتصم؟ ما هذا الجلد والتصميم عند هذا الخليفة الجاهل. دمَّرت جيوش المأمون، ويهزمني المعتصم! حتى وصل به الأمر إلى محاصرتي في هذه القلعة الحصينة. وكل شهر يرسل مدداً جديداً. ماذا ترك لحماية مملكته. وقال الجملة الأخيرة بصوت سمعته فيروز، فسألته:
- ماذا قال سيدي؟
أجابها" بابك".
- إن المعتصم أرسل معظم جيشه لمحاربتي. فماذا ترك لحماية عرشه وحدوده.
- ربما كان هذا لمصلحة سيدي.
- وكيف ذلك
- أرسل إلى امبراطور الروم "توفيل" وأعلمه بالأمر فالبيزنطيون يتربصون بالمسلمين منذ قيام دولتهم، لا يمنعهم من مهاجمتهم إلا الخوف من قوتهم، فإذا تأكد "توفيل"، من ضعف حاميات ثغور المسلمين هاجمها، وربما تقدم باتجاه بغداد، فيضطر المعتصم إلى سحب قواته التي تحاصرنا، فيطاردها سيدي بجيوشه، وننتهي من حكم المسلمين.
- أصبت. هذا ما أفكر فيه، وسأعده بأن أتنصَّر إن ساعدني، وسأرسل إليه وفداً وهدايا فور سماح الجو بذلك.
لم تكن عقيدة بابك "الخرمية" من اختراعه، بل استهوته الفكرة لأنها تساعده في تحقيق طموحاته، وقد اعتنقها على يد أحد قادتها. وهو "جاويدان" ولما مات ادعت امرأته أن روح زوجها حلت في بابك.
وهكذا بدأ يجمع الأنصار حوله، وحوَّر بعض معتقدات "الخرمية" ليصبح صاحب عقيدة جديدة هي "البابكية" - نسبة اليه - وان كانت فرعاً من فروع الخرمية. والهدف تلبية طموحاته القائمة على كره العرب، وكره الإسلام والمسلمين، الذين قضوا على امبراطورية الفرس. واستغل العقيدة الدينية التي تبعها كثيرون في منطقة الجبال لتحقيق طموحاته السياسية.
وأما موجز العقيدة البابكيَّة نهو الاعتقاد بتناسخ الأرواح، والرجعة. ومن مبادئها الاشتراكية، والإباحية، ومنها استباحة النساء برضائهن، ورفع التكاليف الدينية، وتوزيع الثروة، بنزع الأراضي من الملاكين وتوزيعها على الفلاحين...
انتهى حديث فيروز مع بابك، وانصرفت إلى بعض أعمالها، بينما عاد هو إلى شروده واستعراض تاریخ خروجه على الدولة العباسية. فقد كانت بلدته "البذ" بعيدة عن مركز الخلافة في بغداد، وتقع في جبال وعرة المسالك تحول دون الوصول إليها بسهولة. وقد اغتنم فرصة الاضطرابات في أراضي الخلافة، والصراع بين الأخوين: الأمين والمأمون ما أضعف الدولة المركزية فأعلن العصيان والانشقاق عن الدولة، واتخذ من قلعة "البذ" قاعدة له ومركز قيادة، وخضعت لسلطته مناطق واسعة شرقي بلاد الخلافة.
ولما آلت الخلاقة إلى المعتصم، تابع سياسة أخيه المأمون في محاولة القضاء على فتنة بابك، وكان المأمون نصحه بذلك، فبدأ بإرسال الحملات الواحدة تلو الأخرى للقضاء على بابك وجماعته، وكانت الحرب سجالاً بين الطرفين، لوعورة المنطقة، وتحصن بابك في قلعته المنيعة.
وممن عهد إليهم المعتصم بمحاربة بابك أحد قواده المحنكين المعروف باسم "الإفشين"، ولما وصل إلى مدينة "برزند" وعسكر فيها بدأ بترميم الحصون، وبتمهيد الطرق، وتنظيم الاتصالات والمواصلات بين العاصمة وبينه، وبین "برزند" و"أردبيل" لتيسير نقل المؤن وتحرك الجنود والقوافل بين الحصون والمناطق التي تحت سيطرته. واعتمد سياسة استمالة المتنفذين في المناطق التي تتبع لبابك، وشراء عملائه وجواسيسه، حتى آل وضعه إلى ما هو عليه من ارتباك وحصار.
كان "توفیل" يعقد اجتماعاً مع كبار مستشاريه عندما وصلته رسالة "بابك". فضَّ الرسالة وبدأ بقراءتها، وكانت كل جملة فيها يظهر أثرها في تعابير وجهه. وبعدما انتهى من قراءتها أطرق برأسه قليلاً، ثم رفع رأسه وبدل أن يتكلم أعاد قراءة الرسالة هذه المرَّة بصوت عال: "إن ملك العرب قد جهَّز إليَّ جمهور جيشه، ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعاً إلى ما حولك من بلاده فخذها، فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها"
ساد الحضور صمت رهيب، وشردت أفكار كل منهم في ناحية. تم قطع الصمت سؤال "توفيل".
- ما رأيكم في ما ورد في هذه الرسالة؟
أجاب كبير المستشارين:
- لا يخفى على سيدي ان "بابك" في وضع حرج، وهو يستنجد بنا لتخفيف ضغط جيش المسلمين عنه.
اصغى "توفيل"، باهتمام إلى رأي كبير مستشاريه، وأخذ يتفرس في وجوه الحاضرين، ففهموا أنه يرغب بالاستماع إلى آراء الآخرين فقال أحدهم:
- ما تفضل بقوله كبيرنا صحيح، لكن هزيمة "بابك" تعنى انتهاء الحروب الأهلية داخل مجتمع الأعداء، وهكذا تستطيع دولة المسلمين توجيه قوتها الينا. وعقَّب آخر:
- المسلمون لا يعتدون، ولكنهم لا يسكتون على ضيم، ويردون الصاع صاعين. وقتالهم ليس بالأمر السهل، ففي عقيدتهم إن المقاتل إن انتصر فقد كسب الدنيا والآخرة، وإن قتل فقد كسب الآخرة. فيحسن بنا أن نفكر كثيراً قبل اتخاذ أي قرار. هنا تدخل "توفیل"، قائلاً:
- دعونا قبل كل شيء نتأكد من صحة ما ورد في رسالة "بابك" ونجمع معلومات عن وضع المسلمين، وبناء على ذلك نتخذ القرار المناسب.
كان توفيل بن ميخائيل، ملك الروم، رجلاً مغروراً، يحقد على الإسلام والمسلمين، فما أن رجع جواسيسه وعملاؤه بأخبار صدق ما ورد في رسالة بابك، وتأكيدهم انشغال المسلمين بقتاله، حتى خرج بمئة ألف رجل، بينهم سبعون ألف مقاتل، والمحمَّرة من أتباع بابك الذين كانوا قد هزموا في قتالهم مع المسلمين، فالتحقوا بالروم، وهم أشد حقداً على المسلمين من الروم.
وزحف بهذا الجيش الجرار باتجاه بلدة "زبطرة"، فاحتلها وقتل الرجال، وسمل عيون كثير منهم، وقطع آذانهم، وجدع أنوفهم. وسبى الذراري والنساء... وفعل مثل ذلك ببلدة "ملطية"، وبحصون المسلمين في تلك المنطقة.
وكان بين السبايا امرأة هاشمية صاحت بوجه حراسها: "وامعتصماه". فسخروا منها، وقال لها أحدهم: أين انت من المعتصم لينجدك؟ ولكن وجد بين الحراس عربي متنصر، فسرب الخبر، حتى وصل إلى المعتصم، وفور سماعه، وقف وصرخ: "لبيك لبيك". تم نادى بالنفير، وأوصى وأشهد على وصيته، فجعل ثلث أملاكه لورثته، وثلثاً لله تعالى، وثلثاً لمواليه، وخرج فعسكر غربي الفرات. ووجه جماعة من خيرة القادة والجند بقيادة "عجيف بن عنبسة"، إلى زبطرة لنجدة أهلها، فلما وصلها وجد توفيل قد انسحب منها بجنوده، وانصرف إلى بلاده بعد أن تصدى له المرابطون في ثغور الجزيرة والشام.
كان قرار المعتصم التصميم على تأديب توفيل، والثأر مما فعله. ونجدة المرأة التي استغاثت به، وتحريرها من الأسر هي ومن معها. وبصفته قائداً عسكرياً محنكاً يدرك خطأ فتح جبهة مع عدو قوي قبل تنظيم وضعه الداخلي، والانتهاء من بابك وجماعته.
لذلك وفور انقضاء فصل الشتاء وبدء ذوبان الثلوج سارع إلى إرسال مدد ضخم من مال ومؤونة وأسلحة ودواب. بقيادة أحد كبار قادته "إيتاخ " إلى "الإفشين". وما أن وصلته الامدادات حتى بدأ الافشين التقدم نحو "البذ" بحذر شديد. ولم يقصد حصن بابك مباشرة، بل عمد إلى حصاره بالعساكر والخنادق، وعسكر قريباً منه، وأمَّن جنوده، والمطوِّعة معه، وسيطر على رؤوس الجبال. وبدأ حرباً نفسية مدروسة لإرهاب بابك وأتباعه، من استعراض قواته، وضرب الطبول الكبيرة، ورفع الأعلام الكثيرة. وعندما تتلاقى مجموعات من الطرفين كان يمنع أتباعه من القتال.
واستمر على تلك الحال حتى ضجر العساكر، وبخاصة المطوِّعة الذين كانوا لا يتقاضون رواتب، وخرجوا إلى القتال جهاداً في سبيل الله، واتهموه بأنه لا يرغب في القتال، في حين كان هو يدرس المنطقة، والوضع العام لقواته وقوات عدوه، ويضع خطة للقتال لا مجال للفشل فيها.
ولما وصل الأمر إلى حدِّ تهديد المطوِّعة بالانسحاب من الجيش وافق على المباشرة بالهجوم، ولكنه فشل في هجومه الأول على الحصن. فعاود الهجوم بعد أيام ونجح في السيطرة على قلعة "البذ"، وأسر كثيراً من أتباع بابك وأسرته وحاشيته، ولكن بابك استطاع الهرب هو وأخواه عبدالله، ومعاوية، وبعض نسائه، ودخل في غيضة ذات شجر كثيف، وتمتدُّ حتى أرمينية، فوضع الإفشين عساكر على مختلف مخارجها يراقبونها.
ولما فني الزاد لدى بابك حاول الوصول إلى مخرج، فتصدى له عساكر الإفشين، ولكنه تمكن من الهرب، بينما اعتقل العساكر أخاه معاوية، وبعض النساء.
ولم يكن أمامه إلا محاولة الخروج مرة ثانية من مخرج يوصله إلى أرمينية، وأثناء سعيه إلى ذلك التقاه صاحب حسن في تلك المنطقة يدعى "ابن سنباط"، وكان يعرفه ويعرف مكانته، فأقبل عليه، وقبَّل يديه، وسأله عن مقصده، فأجابه أنه يقصد أرمينية، فعرض عليه أن يستضيفه عنده في حصنه، وأقنعه بأنه سيكون عنده أكثر أماناً. وكان مما قاله له:
- يعلم سيدي أن كثيراً من أبناء المنطقة هم أولاده.
فتذكَّر أنه أيام كان سيِّد المنطقة وحاكمها المطلق، كيف كان إذا علم بأي صبية جميلة يطلبها من أهلها لينام معها، فإن رفض أبوها أو أخوها... قتله واغتصب الصبيَّة، ولا يكترث بعد ذلك إن حملت بولدها، فأمه تربيه. فرأى في عرض ابن سنباط ومقالته ما يشجعه على قبوله، وقال له:
- من الأفضل ألا أكون أنا وأخي عبدالله في مكان واحد، وأرى أن أقيم أنا عندك ويقيم أخي في حصن: "ابن اصطفانوس" الموجود في تلك المنطقة أيضاً، فوافقه ابن سنباط.
ولما علم الإفشين بمكانه أرسل إلى ابن سنباط يطلب منه تسليمه إياه، فلم يمانع، واشترط طريقة لا يظهر منها أنه خان بابك وسلمَّه لعدوه، فوافق الإفشين، وطلب من المجموعة التي أرسلها لاستلامه الالتزام بالخطة التي يضعها ابن سنباط.
وكانت الخطة تفضي بخروج ابن سنباط وبابك إلى الصيد فيباغتهم رجال الإفشين، ويقبضون على بابك. ولما قدم رجال الإفشين على ابن سنباط أعلمهم بخطته لتسليم بابك، وحدد لهم مكاناً يقيمون فيه حتى يأتيهم رسول منه، يعلمهم بما يفعلونه. وأغرى بابك بالخروج برفقته إلى الصيد ليروِّح عن نفسه. وقال له:
- لماذا تحبس نفسك في الحصن؟ اخرج معي نصطاد ونستمتع بالطبيعة. فوافق بابك.
وبينما هما في قلب أحد الوديان انقضَّ عليهما رجال الإفشين من طرفي الوادي، فنظر بابك إلى ابن سنباط وقال له:
- يا ابن العاهرة، بعتني إلى اليهود، لو أنك قلت لي لدفعت لك أكثر.
ولم يكن باستطاعته سوى الاستسلام بهدوء، بعدما أدرك خيانة ابن سنباط. فاقتاده آسروه إلى الإفشين، الذي اتخذ مكاناً يسمح له برؤيته وهو يسير بين صفين من أسراه، وفق تنظيم أعدَّه مسبقاً. وبعد استعراضه سجنه في بيت، وأوكل حراسته إلى بعض رجاله الأشداء. ثم طلب من الأسرى الذين كانوا لديه أن يتصلوا بذويهم لاستلامهم، وجلهم من النساء والصبيان.
وأرسل إلى عيسى بن يونس بن اصطفانوس يطلب منه تسليمه أخا بابك عبدالله، فأرسله إليه، فسجنه مع أخيه ثم أرسل إلى المعتصم يخبره بالنصر، وبأسر بابك، فطلب منه المعتصم أن يأتي به إليه.
ولما وصل الإفشين ببابك وأخيه إلى المعتصم أمر بإركابه على فيل سار به بين الناس إلى باب العامة، ثم أمر بقطع أطرافه، وحزِّ رأسه وإرساله إلى خراسان، ليعلم أهلها بمصير من يفكر بالخروج على الدولة، كما أمر بصلب جثته في سامراء ليراها الناس.
وأرسل أخاه عبدالله إلى بغداد، وأمر أن يفعل به أميرها كما فعل هو ببابك.
وبلغ عدد من قتلهم بابك خلال سنوات تمرده من المسلمين 255 ألف إنسان.
وذكرت كتب التاريخ أن عدد الذين أسروا مع بابك 3309 إنسان يضاف إليهم 17 رجلاً من أبنائه، و23 امرأة من نسائه وبناته، وأما الذين كانوا أسرى عنده وجرى تحريرهم فبلغ 7600 أسير وأسيرة.
وبالقضاء على حركة بابك الخرمي وتأمين الجبهة الداخلية، أصبح بإمكان المعتصم تأديب توفيل والاقتصاص منه، على ما فعله أثناء انشغال المسلمين بإخماد تمرُّد بابك، فاستقصى عن أمنع مدن الروم، وأهمها شأناً عندهم، فتبيَّن له أنها عموريَّة حتى قبل له إنها أهم من القسطنطينية، فقرر التوجه إليها وفتحها. وجهز جيشاً لم يسبق تجهيز مثله عدداً وعدَّة ومؤونة. ووضع خطة محكمة لتحركه، فهو يعلم قوة الروم، وشراسة توفيل وغدره، فلا مجال لأي خطأ أو تهاون.
وراعى في خطَّته الحذر الشديد، فقسم جيشه أثناء تحركه إلى مقدمة يقودها أحد قواده، واسمه "أشناس". وميمنه على رأسها "إيتاخ"، وميسره يتقدمها "جعفر بن دينار", وعلى القلب "عجيف بن عنبسة"، يليه في التحرك المعتصم نفسه، ووجه الإفشين إلى بلدة "سروج" في مهمة منفصلة، وحدد للجميع مهماتهم، وطرق سيرهم، ونظم الاتصالات بينه وبينهم، ولم تواجه أية مجموعة قوات معادية، أو تخض حرباً حقيقية إلا قوات الافشين التي منيت بخسائر كبيرة، ولكنها انتزعت النصر، وتابعت مهمتها.
وقضت الخطة بتجميع القوات كلها في مدينة أنقرة، وقد وصلتها جميع الوحدات في الوقت المحدد باستثناء قوات الإفشين التي تأخرت أياماً بسبب ما خاضته من معارك.
ولما اكتمل وصول جميع القوات نظَّم المعتصم مسيرها نحو عمورية فكلَّف الإفشين بقيادة الميمنة، وأشناس بقيادة الميسرة، وهو في القلب. وكان أول الواصلين أشناس، يليه المعتصم، ثم الإفشين. فداروا حول المدينة، وتفحصوا سورها ودفاعاتها. وبعد ذلك قسم المعتصم المدينة وأبراجها إلى أقسام، وكلف كل قائد من قادته يقسم بحسب عدد قواته.
وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم سابقاً في إحدى غزواتهم فتنصر وتزوج منهم، وأقام بعمورية. ولما رأى قوات المسلمين لم يدخل الحصن مع أهل عمورية. وجاء إلى المعتصم وأخبره بموضع ضعيف في السور، كان السيل قد هدمه، وأعيد بناؤه على عجل، فنصب المعتصم خيمته مقابل ذلك الموضع من السور.
وكان توفيل لما غادر المدينة أوكل قيادة حاميتها إلى أحد قواده الأوفياء الأشداء، واسمه "ياطس" ودعمه بخصيٍّ قوي يعاونه. فنظَّم الدفاع عن المدينة، ووزع حماية الأبراج على بطارقته.
أما المعتصم فقد نصب المجانيق تجاه النقطة الضعيفة في السور التي أرشده إليها العربي الأسير. وكثف رميها حتى تصدعت. والمحاصرون يحاولون سد ما يهدم منها بمختلف الطرق والأدوات، حتى ضاق الخناق عليهم بعد مرور مدة طويلة على هذه الحال. فكتب ياطس رسالة إلى توفيل يعلمه فيها بواقع الحال. وما آلت إليه أحوال المحاصرين، وأنه سيخرج بقواته ويخوض معركة مع المسلمين مهما كانت نتائجها، ثم يلتحق به. وأرسلها مع مراسلَين يتقن أحدهما العربية. فوقعا في أسر المسلمين. ولما عرف المعتصم ما في الرسالة، وتبيَّن سوء أحوال المحاصرين اتبع أسلوباً يزيد في انهيار معنوياتهم، فأغدق على الأسيرين الأموال والعطايا ما دفعهما إلى الاسلام، فأمرهما بالوقوف أمام السور بحيث يراهما من بداخله ویرون آثار النعمة عليهما..
ولما كان الخندق أمام الثلمة في السور عميقاً ومتسعاً يصعب اجتيازه، وزَّع شياهاً على المقاتلين ليأكل كل مقاتل لحم الشاة ويأتي بجلدها، فيملؤه تراباً ويلقيه في الخندق أمام المنطقة التي يجري التركيز عليها، حتى إذا امتلأ الخندق بالجلود المحشوة سوّاه بالتراب.
وصنع دبابات كبيرة تتسع الواحدة منها إلى عشرة عساكر ليتقدموا مستظلين بها باتجاه النقطة المحددة في السور. ولما رأى القائد الرومي المكلف بحماية ذلك الجانب من السور، واسمه "وندوا"، تركيز القتال في ناحيته، واهتزاز خطوط دفاعه، طلب النجدة من ياطس والقادة الآخرين، مبيناً لهم أن القتال العنيف يدور في ناحيته، فأجابوه إن كل قائد مسؤول عن ناحيته، ولم ينجدوه. فقرر الاستسلام. ومع إيقاف القتال من طرفه، وخروجه للاستسلام، كانت قوات المسلمين تتدفق من المنطقة المهدمة إلى داخل المدينة، فلجأ أهلها إلى الكنائس والأديرة، واحتل المعتصم المدينة، فأسر آلاف المقاتلين ووزع الأسرى والسبايا على قادته، ليبيعوها أو يوزعوها على رجالهم، ثم خرَّب المدينة وأحرقها.
وقد استغرق حصارها وفتحها 55 يوماً، قصد بعدها بعض الثغور للاطمئنان على وضعها ونشر الرعب في قلوب الروم بتحركاته في مناطق آسيا الصغرى وإحراق بعض قراها. وعاد بعدها إلى سامراء وقد خلد الشاعر أبو تمام فتح عمورية بقصيدة من عيون الشعر العربي مطلعها:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
رضي الله عن المعتصم فقد كان مثالاً للشهامة والرجولة وتلبية الاستغاثة والاستنجاد، ولو كان من امرأة على بعد آلاف الكيلومترات.