الأكثر رواجاً

التاريخ الاسلامي الوجيز

يؤرخ لدول المسلمين من بداية ظهور الإسلام وحتى الانقلاب…

القواعد الفقهية في كنز الراغبين للمحلي

الإلمام بالقواعد الفقهيَّة ضروري لكل طالب علم ولكل…

إعراب القرآن الكريم كبير

أعربت كلمات وجمل كل صفحة من المصحف في الصفحة ذاتها،…

ابحث عن

مؤسس الدار : أحمد راتب عرموش
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
 

مساحة إعلانية

 
تمت اضافة خاطرة جديدة ضمن اخترنا لك بعنوان:الخيار الخاطىء........................... تم رفع كتاب النشاط السري اليهودي للأستاذ غازي فريج ضمن الكتب المجانية
 
 

الله غالب على أمره

الله غالب على أمره

لا أحب الحديث عن نفسي، ولكنني أرى فيما سأكتبه عبرة مفيدة للقارىء. كما إنني لا أدعو إلى التواكل بل أدعو إلى العمل، فإن جاءت النتائج عكس المقصود والمتوقع فذلك هو القدر الذي علينا الرضا به، وعدم اليأس. وأعرض جانباً من رحلتي في الحياة تتعلق بمسيرتي العلمية والأدبية للتدليل العملي على فرض ما كتب. فقد كنت مغرماً بالقراءة منذ تعلمتها، ما جعلني أحسن كتابة موضوعات الإنشاء في المرحلة المتوسطة والثانوية. ولكنني بعد الحصول على الشهادة المتوسطة قررت دراسة الطب. وصادف في تلك السنة أن قسمت الدولة الدراسة الثانوية أربعة فروع، فرعان للعلوم: رياضيات وطبيعيات، وفرعان للإنسانيات: اجتماعيات وآداب. وللقبول في قسم الطب في الجامعة يُشترط الثانوية العامة فرع الطبيعيات، فاخترت ذلك الفرع. وطلب منا استاذ اللغة العربية أبو سلمى الكرمي كتابة موضوع عنوانه لماذا اخترت هذا الفرع. فكتبت موضوعاً دافعت فيه عن العلوم وفائدتها، وهاجمت الأدب وأنه كلام بلا فائدة، وختمت بجملة "الكلاب تعوي والقافلة تسير".

ويوم توزيع أوراق الموضوعات ناداني أبو سلمى باسمي، أن آتيه، وعلى عكس ما توقعت من تأنيب ابتسم لي، وطلب مني قراءة الموضوع على الطلاب، وبعد أن انتهيت قال: يكفي الأدب فخراً أن راتب يهجوه بالأدب. ومنحني أعلى علامة. فكانت تلك الجملة حافزاً لي للاهتمام بالأدب. ودلت على حكمة ذلك الأستاذ لأنه لو أنبني لكرهت الأدب والأدباء. ولكنني تابعت الدراسة في فرع الطبيعيات. وبدأت دروس التشريح، وكان تشريح دودة أول درس. أخرجنا الدودة من وعاء مليء بالدود والكلوفورم وبدأت كما طلب الاستاذ بمطها ثم تثبيتها بدبابيس، وتشريحها.. وفي الدرس الثاني كان علينا تشريح ضفدعة فأزعجتني رائحة المخدر ورائحة الضفدعة. وهكذا مع كل درس تشريح كنت أنفر من المختبر.

وكانت في ذلك الوقت القضية الفلسطينية شاغلة المجتمع السوري، كما كانت الانقلابات العسكرية سائدة، ما جعل السلطة تستهويني كأي شاب طموح، وطريقها الجيش، وحلم تحرير فلسطين من جانب آخر يدعوني إلى الالتحاق بالقوات المسلحة. فنقلت إلى فرع الآداب لأن ميلي إليه يجعله أسهل علي. وكان عدد الناجحين في ذلك الفرع قليلاً ما يضمن لي الانتساب إلى الجامعة ومتابعة دراستي في الفرع ذاته، ولكنني لم اسمع نصائح كثيرة بالمتابعة والتخطيط للعمل استاذ جامعة، والتحقت بالكلية العسكرية. ولم تكن برامج الدراسة النظرية تحتاج إلى وقت طويل، فالمهم في الجندية الشخصية القيادية والأمور العملية.

وكان في الكلية مكتبة جيدة فكنت أمضي أوقات الراحة، فيها وأقرأ كل أنواع الكتب، وبخاصة سير العظماء والمذكرات الشخصية.

وبعد التخرج كان في نادي الضباط مكتبة عامة فيها الكثير من الكتب المختلفة أيضاً، كما أصبح بإمكاني شراء الكتب التي أريدها. ولما نقلت إلى الجبهة كان الوقت أرحب للقراءة. وأثناء الاجازات كنت كثيراً ما أجلس على شرفة منزلي ساعات أمضيها في القراءة، مالفت نظر جارة كانت تتابع دراسة الحقوق في الجامعة، وأثناء زيارتها زوجتي سألتها ماذا يقرأ زوجك دائماً؟ فأخذتها إلى غرفة مكتبي في المنزل حيث تتكدس الكتب على الطاولة وقالت لها: هذه الكتب التي يقرؤها. وكان بعضها يدرسونه في الجامعة. فقالت لزوجتي طالما يمضي وقته بقراءة هذه الكتب فلماذا لا يسجل في الجامعة فيكسب شهادة جامعية، وتنتظم دراسته؟ وكانت تلك الصدفة بداية تنظيم دراستي. فقررت الانتساب إلى كليتين في آن واحد. كلية الشريعة ثم كلية الحقوق لوجود مواد مشتركة بين الكليتين.

اشتريت الكتب وسافرت إلى الجبهة. ولما علمت بتاريخ الامتحان في أول مادتين حصلت على إجازة قدمت أثناءها الامتحان. وأذكر أنني في قاعة الامتحان لم أتذكر شيئاً مما قرأته. فأخذت راحتي بالكتابة من ثقافتي العامة. وفوجئت في الاجازة التالية باسمي على لوحة الناجحين بدرجة جيد جداً، فكان ذلك حافزاً لي على المتابعة بجد ونشاط.

أمضيت في الجبهة ثلاث سنوات، إجتزت فيها ثلاثة صفوف، ولكن انحيازي في لعبة الانقلابات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وهي تؤدي إلى السلطة، أو السجن، أو القبر. فكان نصيبي أن أنهي دراسة السنة الرابعة في السجن. وبعد خروجي هربت إلى لبنان.

وهناك أنشأت شركة تجارية مع أحد الأصدقاء، وعند بشائر النجاح حصلت حرب 1967. وتوقفت الاعمال. وقرر شريكي السفر للعمل موظفاً، وتوليت تصفية العمل. وبقيت حائراً في اختيار عمل أمضي به حياتي، فنصحني صديق صاحب دار نشر بأن أعمل ناشراً، ومما قاله أن هذا العمل يناسبني ولا أصلح تاجراً. ولما قلت له إنني لا أعرف شيئاً عن طبيعة هذا العمل عرض ارشادي، واستأجر لي مكتباً مجاوراً لمكتبه، وبدأت العمل وأحببته، كما أحببت مناخ الحرية في لبنان.

ومن جملة من تعرفت عليهم ونشرت لهم ابن علامة الشام الاستاذ ظافر القاسمي، وتوطدت العلاقة بيننا، فاقترح علي متابعة دراستي لتحصيل الدكتوراه. ولما قلت له إنني لا أفكر في العمل موظفاً، ولا تهمني الألقاب، ولا تغير في واقعي شيئاً. قال ما ملخصه أن الانسان لا يعرف ما يخبئ له القدر، وأنه كان نقيب محامين، وهو اليوم يدرِّس في الجامعة في بلد غير بلده، ويتقاضى مكافأة عن الساعة ستين ليرة لبنانية، بينما يتقاضى الذين يحملون شهادة الدكتوراه مئة ليرة، وهم أقل منه علماً، وكثيراً ما يسألونه في بعض الأمور. وأضاف أنه بوجوده في الجامعة سيساعدني، والدراسة سهلة علي بحسب ما يراه من معلوماتي. فوافقت، وأرسلت إلى سورية لاحضار شهادة الليسانس من الجامعة لأنني غادرت سورية قبل صدور الشهادات، فرفضت الجامعة تسليمها لأحد غيري، وهكذا فشل مشروعي لمتابعة الدراسة... وشغلت بالعمل والتحقيق والتأليف. وكان يرشدني عدد من كبار العلماء والأساتذة منهم الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، والدكتور صلاح المنجد، والأستاذ سعيد الأفغاني. وهم أعلام كل في اختصاصه.

ومرت الأيام وتخطينا السبعينيات... وفي الثمانينيات تعرفت على مدير تحرير مجلة تصدر في لندن بعنوان "الدفاع الاسلامي" فطلب مني مقالاً عن قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعد نشر المقال أرسل لي نسخة من المجلة.

وفي أحد الأيام رأى العدد على مكتبي شيخ متفتح، وأخذ يقلبها، وتوقف عند مقالي وقرأه، ثم التفت إلي وقال: أنت آثم إن لم تكتب، واقترح تحويل المقال إلى كتاب. فقلت له الذين يكتبون في هذه الموضوعات كثيرون وأنت منهم، ولا ينقص الساحة كاتب جديد، فأجاب نحن المشايخ لا نحسن مخاطبة الشباب كما تفعل أنت بأسلوبك السهل الممتنع، وباستعمالك كلمات ومصطلحات مناسبة للشباب. فقررت تحويل المقال إلى كتاب بعنوان "قيادة الرسول السياسية والعسكرية".

وفي زيارة لي من استاذ جامعي صديق سألني ماذا تكتب، فذكرت له الموضوع، فاقترح أن اسجله رسالة ماجستير، فذلك يعطي الكتاب قيمة علمية ويدربني على الكتابة الأكاديمية. وكنت قد تمكنت من الحصول على شهادة الليسانس من الجامعة في دمشق، فانتسبت إلى كلية الامام الاوزاعي، وفوجئت بوجوب تقديم امتحانات مواد تكميلية، وتقديم أبحاث، واكتفوا عن الابحاث بمؤلفاتي وتحقيقاتي، ولكن أعادوني إلى قاعة الامتحانات كأي طالب، ولكن بعمر تجاوز خمسين سنة. وبعد الحصول على الماجستير، وفي زيارة شكر لرئيس اللجنة المناقشة قال: هذه الشهادة لا تكفي، واقترح أن أسجل أطروحة دكتوراه فوراً، واخترت موضوعاً مهماً اقترحته على الرغم من تحذيري من المجلس العلمي من طوله وصعوبته، فأصريت عليه لأنه سيجبرني على قراءة التاريخ الإسلامي كما كنت أحلم. والموضوع "تطور المؤسسة العسكرية في الاسلام"، ومقترحات لأنشاء جيش حديث. وكان المخطط أن يشمل البحث ثلاثة أقسام رئيسة:

الأول: إعداد المقاتل المسلم من مختلف النواحي.

والثاني: تطور المؤسسة العسكرية عبر العصور الاسلامية المختلفة.

والثالث: أسس انشاء جيش معاصر بالاستفادة من القسمين السابقين.

وأعددت المصادر والمراجع وبدأت العمل، وكان المشرف يثني على ما أطلعه عليه، حتى إذا أنجزت قسماً كبيراً منه واجهتني مشاكل وظروفاً أجبرتني على التوقف عن المتابعة، وتركت الكتابة فيه سنوات.

ولما استقرت أوضاعي نسبياً نصحني المشرف، وهو صديق مخلص، وألح علي، أن أعود إلى الكتابة وانجاز الاطروحة، إن لم يكن من أجل الدرجة العلمية فليستفيد الناس منها. فعدت إلى العمل بنشاط وأنجزته في سنة واحدة. ولكنني كنت قد وصلت إلى عمر تجاوزت فيه الألقاب، وتصورت نفسي وقد تجاوزت الثمانين، أجلس أمام لجنة مناقشة، وأرى ذلك مضحكاً، فطبعت الأطروحة كتاباً. ولم أحمل لقب دكتور كما يظن كثير من المعارف وغير المعارف. والآن وقد بلغت تسعين سنة هجرية، أعود بالذاكرة إلى مسيرتي العلمية، وغير العلمية، فقد كان القدر يلعب بي كما يشاء، فلا استطعت أن أصبح حاكماً، بل أصبحت ملاحقاً، ولم أساهم الوحدة العربية التي حلمت بها، ولا حررت فلسطين، التي تسكن ضميري. وأسأل نفسي وأنا كما يقولون: رجل في دار الفناء ورجل في دار البقاء: "أين الخطأ"؟ أم أنه القدر، والله غالب على أمره، وله الحمد أولاً وآخراً.وقاتأوقاتالراحة فيها وأقرأ كل أنواع الكتب وبخاصة سير العظماء والمذكرات الشخصية

   أحمد راتب عرموش

 29-03-2023