الأكثر رواجاً

التاريخ الاسلامي الوجيز

يؤرخ لدول المسلمين من بداية ظهور الإسلام وحتى الانقلاب…

القواعد الفقهية في كنز الراغبين للمحلي

الإلمام بالقواعد الفقهيَّة ضروري لكل طالب علم ولكل…

إعراب القرآن الكريم كبير

أعربت كلمات وجمل كل صفحة من المصحف في الصفحة ذاتها،…

ابحث عن

مؤسس الدار : أحمد راتب عرموش
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
 

مساحة إعلانية

 
تمت اضافة خاطرة جديدة ضمن اخترنا لك بعنوان: وليس الذكر كالأنثى......................... تم رفع كتاب النشاط السري اليهودي للأستاذ غازي فريج ضمن الكتب المجانية
 
 

شروط النشر وسياساته

بسم الله الرحمن الرحيم

علينا قبل الدخول في الموضوع، تحديد معنى هذا المصطلح الحديث ومضمونه، وماهية عمل الناشر، إذ لا يزال عمل الناشر ملتبساً مع عمل المطبعة أحياناً، ومع المكتبة في أحيان أخرى، عند كثير من الناس.

وكما تعلمون، إن الكلمة مخلوق كغيره من المخلوقات، يولد وينمو، وقد يتطور ليصبح مصطلحاً، وقد يموت وينتهي استعماله مع تطور الزمن.

ولفظة النشر في لسان العرب تحمل معاني كثيرة، نذكر منها ما يحسن بالناشرين، والمهتمين بالنشر، معرفته، ومن هذه المعاني: الريح الطيبة، والإحياء، وفسر بعض العلماء "الناشرات" الواردة في القرآن الكريم، بالملائكة تنشر الرحمة، أو بالرياح تأتي بالمطر، فعسى أن يحمل الناشرون العرب الخير لأمتهم.

والنشر: الكلأ، وقيل جميع ما خرج من نبات الأرض، ونشرُ الثوب: بسطُه، والنشر خلاف الطي، وانتشر القوم: تفرقوا، وانتشر الخبر: ذاع.

      ومن هذه المعاني الجميلة جاءت كلمة النشر في المصطلح الحديث. ومع أنني لم أجد تعريفاً متفقاً عليه لهذا المصطلح، وهل هو صناعة أو تجارة، أو مهنة، أو غير ذلك، فإنني سأحاول توضيح المقصود به من خلال عمل ناشر الكتاب أولاً، فهو يقوم بتحويل المادة المعدَّة من المؤلف إلى كتاب في نسخ عدة قابلة للتداول. وهنا ينتهي عمل الناشر ليبدأ عمل الموزع، علماً بأنه لا توجد حالياً في العالم العربي – بحسب علمي - دور توزيع مختصة في توزيع الكتاب، وكانت لدينا في لبنان وفي العالم العربي تجارب غير ناجحة في هذا المضمار، ما يفرض على دور النشر أن توزع منشوراتها.

وإن توسعنا أكثر، في عمل الناشر، نضيف: قابلة للتداول والتعميم، إن في كتاب أو صحيفة أو مجلة أو قرص مدمج أو بأية وسيلة أخرى، وقد اختصر ذلك كله الأستاذ أحمد عاصي فقال، في مجلة "الناشرون"، العدد الثامن: "النشر هو إعداد عمل المؤلف في أفضل صورة مناسبة، وتقديمه إلى أكبر قدر من الجمهور". نستنتج، مما أوردناه، تعريفاً مختصراً شاملاً، فنقول: "النشر إعداد عمل المؤلف ليصبح قابلاً للاطلاع والتداول بأية وسيلة كانت". ولا أدعي كمال هذا التعريف وشموليته، فهو لا يخرج عن كونه وجهة نظر، تهدف إلى توضيح المقصود بكلمة النشر وعدم الخلط بين النشر والتوزيع.

ومع ذلك فإننا سنقصر الحديث، في هذه الكلمة، على نشر الكتاب. وأعود إلى التساؤل، في ضوء ما سبق، عن ماهية النشر: هل هو صناعة؟ أو تجارة؟ أو غير ذلك؟ وبالعودة إلى تاريخ النشر، نرى غياب المصطلح، وحضور المضمون. وقد عدَّ مؤرخونا وأدباؤنا التأليف صناعة، والنشر، الذي كان عماده النسخ، صناعة أيضاً. فقد ذكر ابن خلدون في مقدمته فصلاً ضمن الصناعات سماه صناعة الوراقة، وذكر فيه صفات المؤلف والناسخ، وعاب أخطاء النقل، فقال: "وصارت الأمَّهاتُ والدواوينُ تُنسَخُ بالخطوطِ اليدويةِ، تنسَخُها طلبةُ البربرِ صحائفَ مُستعجَمَةً برادءةِ الخطَّ وكثرةِ الفسادِ والتصحيفِ فتستغِلقُ على متصفَّحِها، ولا يحصُلُ منها فائدةٌ إلا في الأقلَّ النادرِ". وكأني بابن خلدون ينتقد الأخطاء المطبعية في عصرنا الحاضر.

وقال القلقشندي، في كتابه "صبح الأعشى في صناعة الانشا" في الجزء الأول – الباب الأول: " والكتابة إحدى الصنائع، فلا بد فيها من الأمور الأربعة: فمادّتها الألفاظُ التي تخيَّلها الكاتبُ في أوهامه، وتَصَّور من ضم بعضها إلى بعض صورةً باطنة في نفسه بالقوة، والخطُّ الذي يخطه القلم ويقيَّد به تلك الصُّوَر، وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة، وآلتها القلم وغرضها الذي ينقطع الفعل عنده تقييد الألفاظ بالرسوم الخطية، فتكمل قوة النطق، وتحصل فائدة للأبعد كما تحصل للأقرب، وتحفظ صوره، ويؤمن عليه من التغيُّر والتبدُّل والضياع."

وكان للصناعتين: التأليف، والوراقة رواج ومنزلة كبيرة، وتفاخر الناس باقتناء المخطوطات، وتبارى الخطاطون في إخراج مخطوطاتهم في أجمل حلة وأبهاها، وقام الوراقون بقسم كبير مما يقوم به الناشرون في العصر الحاضر.

ولكن من وجهة نظرنا، نرى أن النشر صناعة وتجارة وقبل ذلك رسالة. فهو رسالة لأنه يساهم في تكوين المفاهيم، وصقل العقول، وتربية الأجيال، ولا تقل مسؤولية الناشرين، في هذا المضمار، عن مسؤولية المؤلفين إن لم تزد عليها.

وهو صناعة لأن جميع عمليات تحضير الكتاب تدخل في باب الصناعات، وهو تجارة لأن بيع المنتج يدخل في باب التجارة، ولأنه حيث لا تجارة ولا ربح فلا ناشر ولا انتاج، ولذلك نقول: إن النشر عمل قائم بذاته يختلف في أمور كثيرة عن الصناعة كما يختلف في مثلها عن أنواع التجارات الأخرى.

ولكي يحقق النشر الغاية المرجوة منه يجب أن تتوافر فيه وله أركان وشروط نختصرها بالآتي:

-       مؤلفون أكفاء

-       بيئة صالحة للنشر، وتشمل توافر القارئ والإمكانات المادية والمعنوية. وما يتبع ذلك من قوانين تقيَّدُ النشر أو تطلقه.

-       ناشرون يدركون مسؤولياتهم ويقومون بواجباتهم.

ونبدأ بالحديث عن التأليف والمؤلفين:

فالتأليف، لغة: وصل الشيء بعضه ببعض، وهذا ما يقوم به المؤلف، إذ يصل الكلمات بعضها ببعض في نسق جميل هو أسلوب المؤلف، فيقدِّم الفكرة التي تصورها في عقله في صورة يمكن لغيره الاطلاع عليها.

وقد التبس قديماً عمل المؤلف بعمل الكاتب، فغلب استعمال اسم الكاتب، لأن الكتَّاب كانوا يؤلفون للحكام رسائلهم، ويكتبون لهم اتفاقاتهم ومعاهداتهم وغيرها، فاهتم بعضهم بهذا العمل وألفوا فيه الكتب، ووضعوا للكتاب والمؤلفين صفات وشروطاً، ومن هذه الكتب اشتهر أدب الكاتب لابن قتيبة الدينوري، وأدب الكاتب لعبد الحميد الكاتب وأدب الكتّاب للصّولي، وصبح الأعشى في كتابة الإنشا للقلقشندي، ومعظمهم وضع شروطاً للكاتب وصفات تنطبق على كتَّاب الدولة، وتتعلق بأدب المخاطبة، وحفظ الاسرار.

ومع ذلك فقد أشار بعضهم إلى التأليف، كما هو في الواقع الحالي. قال ذو الرمة لعيسى ابن هشام: "اكتب شعري، فالكتاب أعجب إليَّ من الحفظ. إن الأعرابي لينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة، فيضع موضعها كلمة في وزنها لا تساويها، والكتاب لا ينسى ولا يبدِّل كلاماً بكلام". والذي يهمنا في هذا المثل اهتمام المؤلف بالكلمة التي يشير إلى أنه قد يسهر ليلة في طلبها لتكون مناسبة ومتلائمة مع بقية النص.

وقال الملك المؤيد (أبو الفداء، صاحب حماة): الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة، إليها ينتهي الفضل، وعندها تقف الرغبة.

ويشير القلقشندي إلى شروط في التأليف فيقول: " ومنها اشتمال كتابة الإنشا على البيان الدال على لطائف المعاني، التي هي زُبَد الأفكار وجواهر الألفاظ، التي هي حلية الألسنة، وفيها يتنافس أصحاب المناصب الخطيرة، والمنازل الجليلة، أكثر من تنافسهم في الدر والجوهر".

1-   لهذا على المؤلف أن يدرك مكانته ويعي مسؤوليته، فهو يساهم في تشكيل القناعات، وتكوين الأخلاق إضافة إلى نشر الثقافة وزيادة المعلومات، فلا يجوز لأي مؤلفٍ أو مثقف أن يبرر لعدو جرائمه، أو أن يزوِّر الحقيقة فيقلب الباطل حقاً والحق باطلاً.

2-   يجب على المؤلف أن يتقن اللغة التي يكتب بها، فاللغة مكوَّن أساس من مكوِّنات الأمة، ولا يجوز إهمال قواعدها، وأصول الكتابة بها، بأي شكل ولأي سبب، فتقديم الفكرة الجليلة بلغة ركيكة كتقديم الطعام الطيِّب في وعاء قذر. وأكتفي بهذا القدر ولا أضرب أمثلة بما نجده عند بعض المؤلفين من أخطاء لغوية.

3-   على المؤلف أن يكون عدلاً فلا يدفعه حقد أو غلُّ، أو موقف خاص به، إلى التجني على الحقيقة.

4-   وعندما ينقل عن غيره عليه توخي الدقة والنقل بأمانة وصدق، وأن يعزو كل معلومة إلى صاحبها.

5-   أن يكون طويل الأناة، والصبر في التنقيب والتفتيش عن المعلومة، وأن يعيد النظر فيما يكتب ليرضي نفسه قبل غيره.

6-   وعندما يكون التأليف إبداعاً، من شعر أو نثر، فعلى المبدع ألا يكتفي بإرضاء نفسه، والتذرع بأن الأدب للأدب، والفن للفن، فبالإضافة إلى الإبداع يجب أن يكون ملتزماً بقضايا أمته وأخلاقها، وأن يكون لكل ما يقدمه هدفٌ نبيلٌ.

البيئة المناسبة

البيئة المناسبة ركن من أركان النشر وشرط من شروط نجاحه، ويتداخل فيها توافر القارئ، والإمكانات المادية من أموال وتجهيزات ودولة تنظم النشر، لتحصل الفائدة المرجوة منه لا لخدمة نظام بعينه.

ولنبدأ بالقارئ، فحيث لا قارئ لا ضرورة للنشر. وفي بلادنا، أقصد البلاد العربية، تتراوح نسبة الأمية بين 35% و75%، وذكر أحمد بزون في جريدة السفير منذ مدَّ أن العرب يصدرون 1.1% من الانتاج العالمي للكتاب، بينما تبلغ نسبة العرب 5% من سكان العالم، وأظنه حابى العرب في هذا الاحصاء، والقراءة ليست من الهوايات الرائجة عند من يحسنونها، وكثيراً ما سمعنا خريجاً جامعياً يتباهى بأنه لم يفتح كتاباً من يوم تخرجه، وكأني بالكثيرين ينطبق عليهم قول الحطيئة:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها       واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

فيكفي تحصيل لقمة العيش، والسهر على الفضائيات، ونوم معظم النهار، ولا ضرورة للمعرفة والتسلح بها، فغيرنا يقدم لنا ما نشاء، ونحن نستهلكه.

وليتحول المجتمع إلى مجتمع قارئ، يجب إيقاظ كوامن حب الاطلاع في نفسه، وتعليمه أنه لا يمكن اللحاق بالأمم التي سبقتنا حتى إن سرنا بسرعتها، ولا بد من مضاعفة الجهود للحاق بركب العلم والحضارة.

ولتعليم القراءة، والتعود عليها، يجب تضافر جهود الدولة والمدرسة والاسرة ووسائل الاعلام. ونذكر بأن الإسلام أمر بالقراءة في أوائل الآيات التي أُنزلت على الرسول الأمين على اختلاف بين الأئمة في أن أول كلمة انزلت هي إقرأ، وكذلك المسيحية، وهما الدينان اللذان يدين بهما غالبية الأمة العربية. والقراءة كالرياضة تنمي العقل كما تنمي الرياضة الجسم، والذين يقرؤون ويشغلون عقولهم تقل إصابتهم بمرض ألزهايمر، الذي يصيب كبار السن عادة.

وعلى الناشر والقارئ والمجتمع تعليم الناس أن في الكتاب قيمة غير ثمن ورقه، فالكتاب لا يباع بالوزن، وربما أمضى مؤلف عمره لينجز كتابا،ً وقد يغير كتاب ما معالم قرن من الزمان.

يروى أن امرأة ذهبت إلى حلاق، وطلبت تصفيفة شعر ليس مثلها تصفيفة، فتناول سلكاً معدنياً، وأخذ يلف شعر السيدة عليه بطريقة أدهشتها، ولما انتهى من عمله، سألته عن الأجرة، فقال لها: مئة دولار. فاستغربت السيدة ارتفاع المبلغ وقالت له: ماذا كلفتك التصفيفة لتأخذ مئة دولار، لقد وضعت سلكاً لا يساوي دولاراً. فابتسم الحلاق وسحب السلك، فتهاوى الشعر، وقال للسيدة: إليك السلك مجاناً.

إن الكلمات متوافرة لكل الناس، ولكن وصلها بعضها ببعض، في ما سميناه التأليف، يحتاج إلى عمر من التعلم، وموهبة من الله، وهنا تكمن قيمة الكتاب الحقيقية.

وأما الإمكانات المادية فليس المقصود بها رأس المال فقط، فبالإضافة إلى رأس المال المناسب، الذي كان يتندر به الناشرون فيقولون إن النشر يحتاج إلى مال قارون وصبر أيوب، أقول، بالإضافة إلى ذلك، يجب توافر الفنيين، والأجهزة والآلآت الضرورية الحديثة لإنتاج الكتاب بكلفةٍ مناسبة، ابتداء من الحاسوب وانتهاء بتجهيزات التجليد وآلاته.

وأما الدولة فهي المسؤولة الكبرى عن تقدم النشر أو سحقه وتفريغه من مضمونه، وكلنا يعلم، والحمدلله، أن معظم دولنا درست طبائع الاستبداد، وحفظتها، وأتقنت تطبيقها، وبخاصة تجهيل الأمة، ليسهل إحكام السيطرة عليها.

ولا يكفي معظم دولنا من المآثر أنها مقصرة في محو الأمية، ونشر التعليم، فهي تضع القوانين التي تحد من انتشار الكتاب، والأغرب من ذلك أنها لا تستطيع السيطرة على الفضائيات والأنترنيت، فتعمد إلى الكتاب، فتعامله كمجرم حتى تثبت براءته، وكثيراً ما مُنِعَ طبع كتاب لجملة لم ترق الرقيب، وكثيراً ما استغرق السماح لكتاب طبخ أشهراً حتى يسمح له بالتداول، فربما استعملت في وصفة ما ملعقة نبيذ يظنها الرقيب ستسكر الأسرة.

باختصار لا بد من قوانين ترفع القيود عن الكتاب، وذلك شرط من شروط النشر الناجح.

وفي مجتمعاتنا العربية غرائب لا نجد لها مسوغاً إلا الاستهتار بالقراءة والثقافة، فلا تجد إنساناً يجادل في ثمن كيلو الحلو مثلاً ومآل كل مأكول معروف بعد ساعات من أكله، وقلما تجد قارئاً لا يساوم في ثمن الكتاب، وهو ضئيل جداً في البلاد العربية مقارنة بالبلاد الأخرى، والكتاب سلعة لا تفنى، وكثيراً ما ورث الابناء عن الآباء والأجداد ثروات من الكتب.

في أحد المعارض، وقف الدكتور مدير المعرض في حفلة تكريم المشاركين في المعرض يتحدث فأسهب في أمر واحد هو ارتفاع ثمن الكتاب مع أن الدولة هي الوحيدة القادرة على تخفيض ثمن الكتاب.

فما كان من أحد المواطنين الصحفيين إلا أن طلب التعقيب فقال: يذهب أحدكم إلى المزين فيدفع عشرين دولاراً لتزيين شعره، ويبخل بعشرة دولارات لتزيين عقله، وبهذه الكلمات المختصرة وضع يده على الجرح.

وبمناسبة الإشارة إلى دور الدولة في تحقيق نشر ناجح. وأقصد بالدولة جميع الدول نقول: إنها تستطيع تخفيض ثمن الكتاب بالغاء الضرائب على جميع المواد الداخلة فيه، وعن الآلات التي تصنعه، وحتى تخفيض ضرائب الدخل على الناشرين. وتخفيض كلفة الشحن بالبريد وغير ذلك مما هو معروف للجميع.

ويفترض بها أن تشتري من كل كتاب عدداً من النسخ بالسعر التشجيعي لتزويد مكتباتها التي يجب أن تجهز بما يجلب القراء ويحبب القراءة إلى الأجيال الصاعدة.

كذلك عليها أن تشجع جميع وسائل الإعلام التي تخصص برامج للتعريف بالكتب ونقدها، فالكتاب سلعة كغيره من السلع يجب أن يعلم بها الناس، ويعرفوا أهميتها ليقدروا حاجتهم إليها.

وتقوم المعارض بدور مهم في التعريف بالكتاب، ولكنها في وضعها الحاضر أصبحت عبئا على الناشرين لارتفاع كلفتها، وحبذا لو أنها كانت مجانية أو مدعومة على الأقل، ولن أتوسع في الحديث فهي تحتاج إلى بحث خاص ودراسة معمقة.

في البلاد التي سبقتنا علمياً يعمد أصحاب رؤوس الأموال إلى تمويل مشاريع علمية، يكلفون بها دور النشر أو الجامعات، وتحسم الدولة ما يدفعونه في هذا المجال من المستحقات الضريبية عليهم.

وعلى الدولة أن تكون حازمة في ملاحقة المزورين والمقرضين الذين يحدون من الإبداع، ويأكلون حقوق غيرهم بالباطل، وفي الوقت ذاته أن تتولى تشجيع الترجمة، وعقد اتفاقات دولية تتيح للناشرين فيها الترجمة من دون تسديد حقوق ترجمة، لأن تلك الحقوق المرتفعة تحول دون تقدم الترجمة، والاطلاع على الجديد في كثير من حقول المعرفة.

الشروط الواجب توافرها في الناشر.

بعد أن تحدثنا عن المؤلف والبيئة المناسبة للنشر، ننتقل إلى الحديث عن الناشر، فنقول بداية إننا كلنا ندرك الناحية التجارية في النشر، وأنه إن لم يحقق الناشر أرباحاً من عمله فمصيره إلى الزوال، إذا استثنينا الدور المعتمدة من دول أو أحزاب أو جمعيات، فهي خارج بحثنا.

1-  من وجهة نظرنا، ولكي نحصل على نشر ناجح يحقق الغاية المفترضة فيه، وبما أننا أشرنا، في بداية كلمتنا، إلى رسالة الناشر، فإننا نعيد التأكيد على مسؤولية الناشر الأخلاقية والوطنية، فمثل الناشر بين الناس كمثل الإنسان بين المخلوقات، يقول الله عز وجل: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا " [الأحزاب/72].

ومن بين البشر اختار الناشر أن يحمل أمانة فوق تلك الأمانة. لذلك يجب ألا يغيب عن ذهن الناشر أبداً أن النشر رسالة، وهو مبلغها.

2-  وكما أن أي مهنة أو عمل يحتاج إلى معرفة بهذا العمل، فيجب أن يتوافر في الناشر حد معقول من الثقافة لكي نحصل على نشر ناجح، وإلا فعليه أن يقوم بدور الممول ويترك الإدارة لمن هم أهل لها.

3-  ويجب أن يكون لكل ناشر مستشارون من أهل الاختصاص، يعرض عليهم ما يرغب في نشره لكي يكون قراره معتمداً على أسس علمية.

4-  وفي هذا العصر، حيث تتشعب حقول المعرفة، يستحسن الاختصاص في حقل من هذه الحقول، فيُعرف الناشر به، ويستطيع أن يبدع فيه أيضاً.

5-  تجب الملائمة بين موضوع الكتاب وثمنه، وبين موضوع الكتاب وطريقة إخراجه، فلا يلجأ الناشر إلى البذخ في قصة خفيفة تقرأ قبل النوم مثلاً، فيطبعها بالألوان ويجلدها تجليداً فنياً، فينفق فيها ما يرفع سعرها فيؤثر في رواجها، والعكس صحيح.

6-  ولتحقيق نتائج جيدة في عالم النشر، يجب وضع سياسة عامة في كل دار لتخفيف المصاريف العامة التي لا تدخل في حساب كلفة الكتاب مباشرة، ولكنها تدخل فيها بشكل غير مباشر، وكثيراً ما أدت إلى إفلاس أو معاناة بعض الناشرين. فالمصاريف العامة في عالم النشر كبيرة جداً، وبخاصة لضرورات السفر للتسويق أو للتحصيل، ويتحمل الناشرون مسؤولية كبيرة في تعويد المستوردين على قصدهم لعرض الجديد أو لاستيفاء دين سابق، ما أنسى العاملين في الكتاب عموماً ما أتاحته الحضارة المعاصرة من وسائل اتصال وطرائق دفع، مما هو معروف، ولا حاجة للتوسع فيه. ولكنني أضرب مثلاً لتوضيح ما أرغب في تبيانه: دار نشر تبلغ مصاريفها العامة، من إيجارات ورواتب وضمان وهاتف وكهرباء وغيرها، خمسين ألف دولار، فإن باعت خمسين ألف كتاب، وربحت في كل كتاب دولاراً، فإن النتيجة العامة التي تكون قد حققتها هي لا شيء، وإن استمرت على هذا المنوال لا تستطيع الاستمرار.

7-  وهذا يقودنا، لكي نحصل على نشر ناجح، إلى ضرورة التعاون بين الناشرين في توزيع منشوراتهم.

وأذكر أنني ذكرت مرة الآتي: أحلم باندماج دور النشر المتقاربة إنتاجاً والمتآلفة عملاً، وأحلم بانشاء مؤسسة تتولى توزيع الكتاب العربي، وترفع عن كاهل الناشر أعباء السفر والتحصيل.

أحلم بتنسيق بين الناشرين بحيث يعلن كل ناشر عن برنامج نشره لسنوات، فلا تتضارب العناوين في بعض الموضوعات وتهمل موضوعات أخرى.

فما المانع مثلاً في أن يتقاسم الناشرون العرب تحقيق التراث العربي كله، كل منهم يحقق كتاباً أو أكثر، بدل أن يحققوا كلهم كتاباً واحداً ويتنافسوا في ثمن بيعه، وما المانع في أن تنشر كل دار كتاباً أو أكثر في كل سنة خدمة للثقافة لا إبتغاءً للربح.

وفي الختام أسأل العلي القدير أن أكون قد وفقت في إلقاء الضوء على نواحي مهمة في موضوع النشر، والحمدالله رب العالمين.

[محاضرة ألقيت في أحد المؤتمرات الثقافية]