الأكثر رواجاً

التاريخ الاسلامي الوجيز

يؤرخ لدول المسلمين من بداية ظهور الإسلام وحتى الانقلاب…

القواعد الفقهية في كنز الراغبين للمحلي

الإلمام بالقواعد الفقهيَّة ضروري لكل طالب علم ولكل…

إعراب القرآن الكريم كبير

أعربت كلمات وجمل كل صفحة من المصحف في الصفحة ذاتها،…

ابحث عن

مؤسس الدار : أحمد راتب عرموش
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
 

مساحة إعلانية

 
تمت اضافة خاطرة جديدة ضمن اخترنا لك بعنوان:الخيار الخاطىء........................... تم رفع كتاب النشاط السري اليهودي للأستاذ غازي فريج ضمن الكتب المجانية
 
 

واقع النشر في البلاد العربية ومعوقاته

 

معوقات النشر:

          في بداية الحديث عن "معوقات النشر" أجد من الضروري في ضوء العناوين الفرعية التي تندرج عنها تحت هذا العنوان الجامع، أن أشير إلى أن البحث سيتناول معوقات نشر الكتاب بالمعنى الاصطلاحي، وصعوبات نشره بمعنى توزيعه.

فالنشر، في المصطلح: هو عمليات تحويل المادة المكتوبة إلى كتاب مطبوع في عدد من النسخ.

أما التوزيع: فهو مجموع العمليات التي توصل الكتاب إلى حيث يجب أن يصل. والمعوقات تشمل المجالين، وهي كثيرة ومتشعبة، والحمد لله، ومنها:

1- ارتفاع كلفة الكتاب:

          نبدأ البحث بذكر أسباب ارتفاع كلفة الكتاب، ثم نتطرق إلى الحلول التي يمكن أن تساعد في تخفيض هذه الكلفة.

أولاً: هناك قاعدة في عالم النشر مؤادها أنه كلما قلَّ عدد النسخ المطبوعة ازدادت كلفة النسخة الواحدة، والأسباب معروفة: التنضيد والتصحيح والأفلام ولا تختلف كلفتها مهما بلغ عدد النسخ... وفي عالمنا العربي نطبع كميات قليلة جداً من أي عنوان إذا ما قيست بما يطبع في العالم المتقدم، حيث المعدل الوسطي للطبعة الواحدة عندنا هو ما بين الألفين إلى الثلاثة آلاف نسخة تنخفض في الكتاب الجامعي والمتخصص، وترتفع في بعض الكتب الثقافية والدينيّة.

إذن، يمكننا أن نَعُدّ السببَ الأولَ من أسباب ارتفاع الكلفة قلَّة عدد النسخ المطبوعة.

ثانياً: ارتفاع قيمة المواد الداخلة في صناعة الكتاب، من ورق وكرتون وحبر ولوازم تجليد، في بلاد المنشأ. وبخاصة الورق الذي يتضاعف سعره أحياناً ثلاث مرات تقريباً في عام واحد، كما حدث عام 1995، ويزيد في الثمن الأساس لجميع هذه المواد ما يُفرض عليها من رسوم جمركية وغير جمركية، تفرضها الدول بنسب مختلفة بين دولة وأخرى.

وفي بعض الدول عوائق للتصدير والاستيراد ومعاملات روتينيّة مكلفة ومرهقة.

يُضاف إلى ذلك ارتفاع أثمان آلات الطباعة ومعدات تصنيع الكتاب، وارتفاع أكلاف التخزين، وأجور الشحن، والضرائب المباشرة وغير المباشرة، وكلفة البريد،..وما يَتبعُ ذلك من "روتين" مزعج، ورقابة ثقيلة الظل، ورسومٍ مختلفة عند إرسال الكتاب (تصديره) وعند استلامه (استيراده).

وهناك مشكلة ظهرت في السنوات الأخيرة زادت في كلفة الكتاب بشكل غير مباشر، وهي دخول "تجَّار" طارئين على العمل في "تجارة الكتاب"، استغلوا طبيعة البيع ديناً في هذه المهنة، وتخلفوا عن التسديد، قاصدين، أو لسوء الإدارة والتقدير. وأدت كثرة هؤلاء بالناشرين إلى أخذ هامش مال ضائع (مستهلك). هذا إذا استثنينا الأموال المجمدة في عدد من الدول العربية لأوضاع شاذة طارئة... وإذا استثنينا الخسائر التي لحقت بالناشرين من جراء توقف شركات القطاع العام التي كانت تستورد الكتاب في بعض الدول، وإفلاس بعضها، وتهرب الدول التي تملكها من تسديد ديونها والوفاء بالتزاماتها، حتى ليخيل للناشرين أن تلك الدول تسعى للقضاء عليهم بدل مساعدتهم.

كما اعتاد عدد كبير من الموزعين وأصحاب المكتبات عدم تسديد المستحقات عليهم إلا بحضور الناشر شخصياً أو مبعوث من قبله لتحصيل الديون، وكأنه يوجد عداء بين بعض العاملين في الكتاب من جهة والكتابة والبريد، والبنوك وجميع الوسائل التي وجدت أصلاً للتخفيف من أعباء السفر ونفقاته من جهة أخرى.

وهذه التكاليف كلها تنعكس في نهاية المطاف على إجمالي كلفة الكتاب ويتحملها تالياً المشتري، قارئ الكتاب.

كيف يمكننا تخفيض كلفة الكتاب؟

يٌحَمِّل كثير من الناس الناشر مسؤولية ارتفاع ثمن الكتاب، وأظن أن دور الناشر بسيط جداً في تخفيض الكلفة، لأن الناشرين يتنافسون أصلاً في إصدار أفضل الكتب بأقل الأسعار.

وعلى سبيل المثال الطرفة أقول:"إن المزورين يستطيعون تخفيض أسعار الكتب، لاختلاف الكلفة بينهم وبين الناشرين" ولكن هؤلاء ليسو ناشرين، واصطلح الناس على تسميتهم لصوص وقراصنة الكتب. فهم خارج الموضوع وسنتطرق إلى دورهم في هدم ثقافة الأمة في المكان المناسب.

الدور الرئيس في تخفيض كلفة الكتاب، وتالياً ثمنه، هو من مسؤولية الدول.

ومن المؤسف القول: إن الذي يتتبع مسيرة الكتاب في عالمنا العربي يشعر وكأن الكتاب عدوٌ تجب محاربته. مؤلفه مطارد إن لم يتوافق ما يكتبه وأهواءَ أولي الأمر. وناشره منبوذ إن خرج عن التعليمات... والتعليمات متضاربة بين بلد وآخر. والشاطر من يستطيع أن يعمل بنصيحة سمعتها من أحد المثقفين المسيسين، قال: المرحلة تتطلب كتاباً بلا لون ولا طعم ولا رائحة، أكثر من نشر الكتب الصفراء التي لا يحسن أحد قراءتها. ومن يستطيع قراءتها لا يفهمُها. وكذلك من كتب الطبخ والنفخ والتنجيم فجميع تلك الكتب تؤمن دخلاً جيداً ولا يعيقها عائق. طبعاً كان الرجل يضحك من الحالة المزرية السائدة في سوق الكتاب.

ماذا تستطيع الدولة أن تفعل لتخفيض كلفة الكتاب:

أولاً: في موضوع قلة عدد النسخ المطبوعة تستطيع الدولة، بل يجب على كل دولة أن تشتري من كل عنوان جديد يصدر فيها عدداً لا يقل عن الخمسمائة نسخة توزعها على مكتباتها العامة (مكتبات المطالعة العامة ومكتبات المدارس) التي يجب أن تَعُمَّ أنحاء كل قطر عربي. وهكذا يستطيع الناشر أن يزيد عدد النسخ المطبوعة من كل عنوان لضمانه بيع عدد معقول منها.

ثانياً: يجب أن تنظر الدول إلى الكتاب على أنه سلعة متميزة ذات نفع عام، فالكتاب ينيرُ العقول ويهذبُ السلوكَ، ويستحقُ معاملةً تختلف عن المناشف والمماسح. ولا تعدم الدول وسائل كثيرة لتخفيض كلفتها نذكر منها على سبيل المثال ولا الحصر:

- إعفاء المواد الداخلة في تصنيع الكتاب من الرسوم الجمركية، وكذلك آلات الطباعة والصف والتصوير والتجليد...

-إعفاء الكتب من معاملات ورسوم التصدير والاستيراد وما يسمى بقيود القطع في البلاد التي تعتمد هذا النظام.

- تخفيض أجور الشحن وخاصة الشحن الجوي، وتبسيط معاملات التصدير والاستيراد.

- تخفيض أجور البريد على طرود الكتب، وجعل ارسال نشرات الدعاية وقوائم المنشورات شبه مجاني.

- دعم الكتاب عند تصديره.

- إعفاء دور النشر من الضرائب أو على الأقل معاملتها ضرائبياً بشكل مختلف عن بقية التجارات.

- تشجيع المؤسسات الكبرى والشركات والجامعات على التبرع لتمويل نشر بعض الكتب المفيدة ذات النفع العام، غير الرابحة تجارياً، مثل الرسائل الجامعية، والأبحاث العلمية وغيرها.

- تشجيع إنشاء مؤسسات ضمان الديون على مستوى العالم العربي، ودعم المؤسسات القائمة.

- تقديم تسهيلات مناسبة للمؤلفين، وجوائز سخية، بحيث لا يفكر المؤلف في عائدات مصنفه بمقدار ما يعمل لجودة ابداعه.

ما الذي يستطيعه الناشرون لتخفيض كلفة الكتاب وثمنه:

يجب على الناشر أن يسعى للملاءمة بين كلفة الكتاب من جهة وأهمية موضوع الكتاب، ونوعية هذا الموضوع من جهة أخرى، فلا يُجلِّدُ كتاباً خفيفاً يُقرأ قبل النوم في الفراش تجليداً فنياً مذهباً. ولا يغالي في جودة الورق ونوعيته إلا بما يتلاءم والشريحة من الناس التي يوجه اليها الكتاب. ويحاول ألا يبيع ورقاً أبيض كما نجد في كثير من الكتب، ويجب أن يكتفي من الصفحات البيضاء والهوامش وكبر الحرف بما يتوجب لجمال الإخراج وتيسير القراءة فقط.

وأظن أن للقارىء دوراً أيضاً في ذلك. فالقارىء عندما يفتش عن الكتاب المناسب بالسعر الملائم فإنه يجبر الناشر على احترام ذوقه ويجبره على إخراج الكتاب كما يجب أن يخرج، وبيعه بالسعر المعقول.

كذلك فإننا نجد خللاً في سوق الكتاب في توزيع عائداته. فالكتاب الذي يكلِّف دولاراً يباع للقارىء بسعر يتراوح بين الثلاثة والأربعة دولارات. وهذا السعر يوزع كالتالي: ما بين الأربعين إلى الخمسين في المئة للمكتبة أو الموزع وما بين الخمس والعشرين إلى الثلاثين بالمئة هي الكلفة الأساسية. وما يتبقى وهو لا يزيد عن الخمس والعشرين إلى الثلاثين يتقاسمه الناشر والمؤلف، فإن استغرق بيع الطبعة أكثر من سنتين، وهذا ما يحدث غالباً، تنخفض نسبة ربح الناشر إلى ما يقارب الخمسة بالمائة.

وسبب هذا الخلل تنافس الناشرين على كسب الموزعين والمكتبات ومغالاة بعضهم في الأسعار وفي الحسومات، الأمر الذي ينعكس على القارىء. وفي رأينا أنه على الناشرين العمل على تصحيح هذا الخلل، وهم وحدهم يتحملون مسؤوليته.

2- ضعف الإقبال على شراء الكتاب:

- لكي ندرك عمق مأساة ضعف سوق الكتاب في العالم العربي يجدر بنا أن نستذكر الإحصاءات التقريبية التالية، وأقول تقريبية لأن علم الإحصاء لا يزال في صف الأعداء في معظم أنحاء العالم العربي:

- عدد سكان العالم العربي بعد انضمام الصومال وجزر القمر مئتان وعشرون مليون نسمة (المصدر إذاعة لندن مع القيام بعملية جمع خاصة للسكان بحسب ما ينشر في الصحف).

- وسطي نسبة الأمية في العالم العربي 65% ترتفع في الصومال لتصل إلى 75% وتنخفض في لبنان لتصل إلى 35% (المصدر: إحصائيات اليونسكو عن كتاب الإعلام أولاً - د. أسعد السحمراني ص14) ومع أن هذه النسبة تبشر بكارثة. وبخاصة أن عدد الأميين في ازدياد سنوياً نتيجة تكاثر السكان، وعدم تطور التعليم بما يتلاءم وهذا التكاثر فإن عدد الذين يحسنون القراءة والكتابة (أقصد القراء) يصل إلى ستين مليون تقريباً.

أما إصدارات الكتب، غير المدرسية، فهي تقريباً على الوجه التالي: على افتراض وجود 500 دار نشر عاملة تصدر كل منها عشرة عناوين جديدة سنوياً يكون لدينا خمسة آلاف عنوان جديد وعلى افتراض إصدار ثلاثين عنوان إعادة نشر فيكون لدينا خمسة عشر ألف عنوان إعادة نشر، وإجمالي العناوين عشرون ألف عنوان. فإن كان المطبوع من كل عنوان ثلاثة آلاف نسخة يكون إحمالي انتاج العالم العربي السنوي ستون مليون نسخة.

أي يطرح في سوق الكتاب سنوياً كتاب واحد لكل قارىء. بينما يفترض أن يشتري كل واحد من الستين مليون عربي متعلم بمعدل عشرة كتب سنوياً. وبتعبير آخر يفترض أن يطرح في سوق الكتاب ستمئة مليون نسخة.

نستنتج مما ذكرناه أن الكتب التي تطرح في الأسواق، وبعضها لا يباع، هي عشر ما يفترض أن يطرح فيها ويباع، علماً بأن معظم الذي يباع لا يقرأ.

لماذا هذا الانخفاض المذهل؟

السبب الأول: هو ارتفاع ثمن الكتاب بشكل لم يعد يتلائم ودخل الفرد في العالم العربي. في ظل تزايد الاحتياجات، وارتفاع أعباء الحياة وتكاليفها. وقد تحدثنا سابقاً عن وسائل تخفيض كلفة الكتاب.

السبب الثاني: تقلص السوق العربية، والضغط الاقتصادي الذي تمارسه الدول الكبرى على العالم العربي. والمقاطعة المفروضة على بعض دوله. ولسنا بحاجة إلى التذكير بالحصار المضروب على العراق. وبتدهور القيمة الشرائية لكثير من العملات العربية وغيرها. وغير ذلك من الأمور التي تنعكس سلباً على إمكانات العالم العربي. ولا ننسى الديون الكبيرة التي تسدد على أقساطاً غير مريحة.

السبب الثالث: انتشار وسائل ترفيه تعمل ليل نهار سلبت جزءاً كبيراً من وقت القارئ. وسيطرت عليه وهذه الظاهرة تبشر بما يمكن أن نسميه "ثقافة الأميين" التي تجعل المرء يشعر بانتفاء حاجته الى القراءة لزيادة معرفته، وثقافته. وتغنيه -أي هذه الوسائل- عن المطالعة وسيلة للتسلية. فقراءة قصة يمكن أن يستعاض عنها بمشاهدة فيلم يجسد هذه القصة.

والملاحظ أن الدول تنفق على هذه الوسائل بغير حساب، لأنها وسائل إعلام وترويج لما ترغب فيه السلطات.

والحل ليس سهلاً، وهو يبدأ من إعداد الطفل في المدرسة، وتعويده المطالعة وتدريبه على الاختصار والبحث، وتكوينه عقلياً بحيث لا يستطيع الاستغناء عن القراءة لأنه يجد فيها لذة ومتعة. ويمكن أن تخفض ساعات البث التلفزيوني، فيصبح لدى الأسرة كلها وقت يمكن أن يرتاح أفرادها جميعاً فيه من التسمر أمام التلفاز، لينشغل كل منهم بما هو أكثر فائدة، وربما متعة.

3- سوء التوزيع أو التسويق:

الكتاب سلعة تحتاج إلى تسويق كأية سلعة أخرى، ولا بد أن يعلم القارئ بالكتاب ليسعى إلى شرائه. ووسائلُ التعريف بالسلع الأفضلُ في هذه الأيام هي أجهزة التلفاز. ولكن كلفة الإعلانات التلفزيونية باهظة لا يتحملها الكتاب، والإعلام في التلفزيونات المحلية لا يكفى لتغطية السوق العربي.

والعوض عن ذلك أن تخصص محطات التلفاز برامج يومية في أوقات مناسبة تعرِّف فيها بالكتب الجديدة من دون مقابل، أو بأجور رمزية. بالإضافة إلى برامج نقد وتحليل ومناقشة الكتب. كذلك أن تخصص كل صحيفة أو مجلة مجالاً مناسباً للتعريف بالكتب ونقدها وتحليلها. إضافة إلى المجلات المتخصصة بالإعلان عن الكتب.

وتقوم معارض الكتب بدور مهم في تعريف القراء بالمنشورات. وتأمين الكتب بسعر مناسب: ولكن معظم المعارض تحتاج إلى تطوير في وسائل عملها, وفي الدعاية التي ترافقها، وطرائق عرضها. وهي عموماً أصبحت عبئاً على الناشر بعد أن كانت تؤدي دوراً دعائياً وتعطى فائدة مادية. وهي تحتاج إلى بحث خاص بها.

ومما هو معروف أن دور النشر العملاقة غير موجودة في العالم العربي، وأقصد الدور ذات رأس المال الكبير التي تستطيع أن تنتج الكتاب وتسوِّقه بوساطة مراكز توزيع خاصة بها في مختلف الأقطار على مبدأ من المنتج إلى المستهلك مباشرة.

وكذلك لا توجد شركات توزيع كبيرة على مستوى العالم العربي، وربما لن توجد: لأن عائدات العمل في توزيع الكتاب لا تتلائم وحجم رأس المال المطلوب لهكذا شركات.

أما مؤسسات التوزيع المحلية الخاضعة للقطاع العام والتي اعتمدتها بعض الأنظمة العربية فقد ثبت فشلُها، وبعضُها أعلن إفلاسَه بينما تجري تصفية البعض الآخر.

ما هو الحل على صعيد توزيع الكتاب؟

إن ما تستطيعُه دور النشر في هذا المجال محدود جداً. وربما يقتصر على إنشاء شركات توزيع تساهم فيها دور النشر. أقصد مجموعات من دور النشر، تولي كلُ مجموعة توزيع منشوراتها إلى شركة التوزيع التي تساهم فيها، فإن خسرت شركة التوزيع عوضت دارُ النشر والعكسُ صحيح. ولكن قيود تنقل رأس المال وقيود إنشاء المؤسسات ذات رأس المال المختلط في الدول العربية يشكل عائقاً يحول دون تحقيق هذا الهدف. وتعاون دور النشر على مستوى العالم العربي لا يزال هدفاً بعيد المنال.

أما الدولة فإنها تستطيع الكثير في هذا المجال، فهي التي تستطيع تخفيض تكاليف الشحن، وأجور البريد، وقيود الرقابة، وغير ذلك مما ذكرناه سابقاً.

وهي القادرة على تخفيف أعباء شركات التوزيع والمساهمة في ايجادها.

4- الرقابة:

الرقابة التي تمارس على الكتاب، فتسمحُ أو تمنعُ تداول الكتاب في بلد ما، ما هي إلا جزءٌ من الإرهاب الفكري الذي يمارس في الأقطار العربية بنسب تختلف بين بلد وآخر، أحياناً من قبل الأجهزة، وأحياناً أخرى من قبل مؤسسات وتنظيمات دينية أو غير دينية.

فهناك رقابة ذاتية يمارسها الكاتب الذي قد يكلِّفُه رأيُّهُ حياتَه، وعندما يجد الثمن بهذا الغلاء يحجم عن إبداء رأيه. وبما أن كتبَه كلَّها قد تمنع في بلد ما، ولا يُكتفى بمنع الكتاب المعترض عليه، لذلك يتحاشى ذكر أفكار قد تكون مفيدة، ويحاول أن يرضي جميع الأطراف، وتلك غاية لا تدرك. فتأتي أعمالُه مبتورةً أو غيرَ كامِلة وكثيراً ما قَدمت دورُ النشر لكلِ بلد طبعةً تناسبه.

والناشر أسوأ حالاً من الكاتب، فالناشر يجب أن يربحَ ليستمر في الوجود، ولا يُعلن إفلاسُه، ويتوقفُ عملُه. وبما أن منع منشورات دار معينة في بلد ما، مهما كان نوعها، بسبب كتاب واحد أمرٌ واردٌ في عالمنا العربي. لذلك نجد الناشر حريصاً على مسايرة جميع الأطراف، ولو على حساب حرية الفكر. وكثيراً ما نجده يختلف مع المؤلفين بسبب فكرةٍ أو جملةٍ أو فصل. لأن القوانين تعُدُّ الناشرَ مسؤولاً مع المؤلف وشريكه في الإثم، وكأن الكاتب المغضوب عليه سارقٌ والناشرَ مروجٌ. وباختصار، إن الرقابة قاتلةُ الإبداع، لأنها تخيف الكاتبَ، والناشرَ، وحتى الرقيبَ، الذي كثيراً ما يلتزم جانب الحيطة والحذر فيمنع كتاباً يظنُ خطأً أنه لا يرضي السلطة. وبما أنَّ الخطأ في المنع لا يوجب عقاباً، والخطأ في السماح يؤدي إلى عقاب، فالتحوُّط أفضلُ من التهوُّر. وبخاصة أننا في العالم الثالث ننشأ على الخوف، ابتداء من الأسرة التي يتباهى الأهل فيها بأن أولادهم يخافونهم، وانتهاء بالسلطة التي تفخر باستكانة مواطنيها وتحويلهم إلى "طَرْش" لا يهمهم إلا اتباع الكراز. ولا أظن أن المقامَ والموضوع يسمح بغير الإشارة إلى أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعلنا نحصد الهزائم في معظم الميادين ونعيشُ خلطاً كبيراً بين اللياقة والنفاق.

ولنعد إلى الرقابة بالمعنى الاصطلاحي الممارس حالياً، وهي نوعان: رقابةٌ مسبقة تفرِضُ على المؤلف، أو الناشر، تقديم مخطوطة الكتاب إلى الدائرة المختصة، التي تتكدس لديها مخطوطات الكتب، وينتظر أشهراً ليصدر القرارُ بالسماح بطبع الكتاب، أو بمنع طبعه أو بطلب الحذف والتعديل.

ورقابةٌ بعد الطبع، أقصد بعد طبع الكتاب، وذلك للتأكد من التزام الناشر بالنص الموافق عليه بدون تغيير أو تحريف. وبعد ذلك يُعطى الكتاب إذناً بالتداول والتوزيع.

أما دخول الكتاب إلى أي بلد فيحتاج في معظم البلاد إلى رقابة أيضاً، والسماحُ بدخول كتاب إلى بعض البلاد أصعبُ من الحصول على تأشيرة سفر لعربي يرغب بالتوجه إلى قطر عربي آخر. وعلى الناشر الذي يصدر كتاباً أن يرسلَ إلى كل قطر نسخة أو أكثر، بحسب التعليمات، إلى عميل له في ذلك البلد. ليقوم الأخير بتقديمها إلى الجهة المختصة، وينتظر فرج الله والسماحَ لكتابه بالدخول إلى ذلك البلد.

ولكمُ أن تتخيلوا كلفة النسخة المرسلة، وكلفة البريد، والضرر الناتج عن تعطيل رأس المال، لأن الكتاب طبع ووضع في المخازن. وجميعُ هذه المصاريف تضاف على الكلفة وتزيد في ثمن الكتاب. وبعد أشهر من الانتظار قد يأتي السماح، وقد يتبين الناشرُ أن عميله أضاع النسخة، أو أن الرقيب اصطحبها إلى منزله في عمل إضافي فاندلقت عليها القهوة ففضل تصنُّع ضياعها وطلبَ نسخةِ جديدة. ومن الممكن أن لا يتلقى الناشر جواباً ويبقى الكتاب سنوات تحت الإجراء.

هذه صورة مختصرة لما يحدث، ولا نحمِّل أحداً مسؤولية ذلك. فهي طبيعة الرقابة ومقتضياتها.

ومما يزيد في البِّلةِ طينٌ أن الكتاب قد يسمح بتداوله في قطر، ويشحن، ويوزع جزءٌ منه، أو يفسحُ في معرِضٍ ما. ثم يمنع ويصادر. والسبب في ذلك تعدد الرقابات، واختلاف أمزجة الرقباء. فهناك رقابة سياسية، ورقابة دينية، ورقابة أخلاقية.. وعندما تختلف الأراء فالأفضلية للرأي المتطرف. أي للمنع.

في الواقع أنا لست من الذين يحبون تخيل المؤامرات، وأن كلَّ ما يحدث في عالمنا العربي هو نتيجةُ مؤامرةٍ يحيكُها أعداء الأمة علينا. ولكنَّ ما يحدُث ونرى نتائجَه يوحي بمؤامرةٍ على العلم، وعلى الثقافة، وعلى الإبداع في العالم العربي. ليبقى العرب في سبات عميق يكتفون بالأحلام، وتقديس التراث، وبالتغني بالأمجاد الغابرة. أو أننا نحنُ أعداءُ أنفسِنا لا نحسنُ تقويم أضرارِ ما نفعلُ بأيدينا.

ما هي الحلول للتخفيف من أشرار الرقابة:

لا أحد ينادي بحرية غير منضبطة، وكلنا يعرف قيمَ مجتمعنا، وأضرارَ الحرية الفردية المطلقة. ولا أحد ينكر على أيَّةِ سلطةٍ أو نظام حقَّه في المحافظة على أمنه، ولكننا نبحث عن حقوق الآخرين. أفلا يمكن التخفيف عن الكتاب، والكف عن معاملته معاملة مُدانٍ حتى تثبت براءته.

لماذا الكتاب مضطهد ملاحق يخضع للتفتيش والمراقبة حتى التأكد من براءته. لماذا تراقب الكتب العلمية؟ ولماذا تراقب كتب التاريخ والجغرافيا والفلسفة والاجتماع. لماذا تراقب كتب الطبخ، أخوفاً من اقتراح فنجان من الخمر إلى وصفة "كوسى محشي"؟ أما آن لنا أن ندرك أن السكير يسعى إلى الخمر عن غير طريق الطبخ، والمتدين لن يرضى بقطرة خمر ولو وصفها ألف طباخ.

إن كان لا بد من مراقبة بعض الكتب، تماشياً مع الواقع المؤلم الذي نعيشه، فلم لا تعمد الدول التي ترغب بالاحتفاظ بهذا الشرف إلى تسهيل هذه العملية.

كانت الأنظمة العربية يتآمر بعضها على بعض، الأمر الذي فرض على كل نظام أن يهتم بما يتسرب إلى بلده من كتب، أما وقد أصبحت غالبية الأنظمة متفاهمة متعاونة في كثير من المجالات. وهي تسعى لتنظيم أمن موحد، فلم لا يصبح السماح لكتاب ما في أحد هذه الأقطار كافياً لدخوله بقية الأقطار. ولم لا تحدد الدولُ الممنوعات بصراحة ووضوح. وتتركُ للناشر حرية النشر مع إمكانية ملاحقة الكتاب المسيء لاحقاً ومصادرته. أليس الأصل في الأشياء الإباحة.

5-التزوير:

التزوير في عالم الكتاب كلمة مستحدثة يقصد بها تقليد كتاب، بمعنى تصويره بالأوفست، بحيث تأتي النسخة المقلَّدة كالأصل تماماً وبدون تغيير. وهذا ما يلجأ إليه ضعاف النفوس، والدخلاء على مهنة النشر، فيسطون على الكتاب الجيد لدى الآخرين، يزورونه ويسربونه إلى الأسواق بسعر أرخص من سعر الكتاب الأصلي، ويدَّعون أنهم بذلك يخدمون الثقافة فيؤمنون كتاباً جيداً بسعر مناسب.

هذا هو النوع الأكثر شيوعاً من أنواع التزوير. ولكن صدور قوانين صارمة في كثير من الدول العربية، وتحرك أصحاب الحقوق جدياً، بعدما طال الموضوع معظم الناشرين في لقمة عيشهم، أدِّى إلى ظهور أنواع أخرى من التزوير. لعل أخطرها وأهمَّها يختص بالكتب المحققة والمترجمة. فقد أصبح السائد في هذا المجال أن يعمد الناشر اسماً إلى وضع عدد من النسخ المحققة أو المترجمة بين أيدي فئة من أدعياء العلم، أو من أهل العلم والاختصاص ولكن الحاجة المادية تدفعهم إلى القبول بالقيام بما لا يرضي ضميرهم، ويطلب منهم جماعات أو وحداناً تغيير بعض الهوامش والتقديم والتأخير في الفاعل والمفعول به على سبيل المثال. أو إعادة صياغة بعض الجمل في الكتب المترجمة. وبعد انتهاء العمل، الذي يستغرق أسابيع، بينما هو يحتاج إلى سنوات، فيما لو كان ينشأ فعلاً، يصدر الكتاب مزيَّناً مذهباً مذيلاً بتوقيع "لجنة من العلماء" أو ما شابه ذلك من الكلمات الطنانة الرنانة التي لا تحدد مسؤولاً.

وفي بعض البلدان النائية غير العربية التي تطبع كتباً عربية لا يرى بعض الناشرين حرجاً في محاكاة النسخة الأصلية مع تغيير اسم الناشر فقط. ولكن الأثر السيء لهذه الآفة الجديدة لا يزال محدوداً.

والطريقة الأولى من طرق التزوير، أي تقليد الأصل المطبوع تماماً، هي الأشد خطراً، لأن المزوِّر والمروِّج يستغلان اسم الناشر الأصلي التجاري، والذي يكون عادة مرموقاً. أما في الحالة الثانية فإن القارئ الذكي يكشفُ اللعبة ويحجم عن شراء الكتاب بمجرد أن يحمل اسم الناشر الذي اكتشفه وعرفه في كتاب سابق، أو يتعرف عليه في الكتاب الجديد الذي حصل عليه.

وقد ساد أوساط المهتمين بالكتاب لفترة من الزمن تساؤل: هل يسيء المزورون إلى الثقافة أو يخدمونها بتقديم كتاب رخيص، وأحياناً غير متوافر. ومما يشجع على طرح التساؤل هو الاتهام الموجه إلى الناشرين بالاستغلال والمغالاة بالأسعار، والتهاون في تأمين الكتاب وبخاصة الجامعي... ووجد المزورون ترحيباً في بعض الأحيان من بعض المسؤولين ظناً من الآخرين أن المزورين ينفعون ولا يضرون. وإن أضروا بالناشرين، وهم فئةُ قليلة، أفادوا فئةً كبيرةً من المثقفين المتعطشين إلى الكتاب.

ومما لا شك فيه أن المزور يساعدُ في تخفيض ثمن الكتاب، ويدفع الناشر الأصلي إلى دراسة طريقة تسعيره بشكل أفضل، وإلى تأمين الكتاب في السوق باستمرار. ولكن تساؤلات كثيرة تفرض التعمق فيما يؤدي إليه التزوير: فهل يستطيع الناشر أن ينافس المزور، وفارق الكلفة بينهما يزيد عن الخمسين بالمائة؟ وإن كان المزور يريد أن يساهم في نشر الثقافة، فلم لا يعمد إلى خدمة كتاب جديد، وفي تراثنا آلاف الكتب التي لم تخدم، حتى تكادُ تقضي عليها الأرضة في ظلمات المكتبات القديمة. وكذلك فهناك ملايين الكتب باللغات الأجنبية تحتاج إلى ترجمة.

ثم هل يجوز شرعاً وقانوناً وأخلاقاً أن يشتري أيُّ إنسان أيَّةَ سلعةٍ مسروقة بحجة أنها أرخصُ من مثيلاتها في السوق؟

ننتقل بعد هذه التساؤلات إلى السؤال المهم التالي:

ما هو أثر التزوير على حركة النشر والتأليف على ثقافة الأمة؟

والجواب: إن المؤلف الذي يدرك سلفاً أن ثمرة إبداعه سيجنيها اللصوص سيتوقف عن التأليف والإبداع.

والناشر الذي يعلم مسبقاً أن ما سيوظفه من مال في تحقيق كتاب مهم من كتب التراث لم يسبق أن تجرأ أحد على تحقيقه سيحجم عن ذلك عندما يعلم أن أمواله سيسرقها قراصنة الكتب، وكذلك هي حال المترجم، ومن يسعى لنقل العلوم الأجنبية إلى العربية. والنتيجة واضحة وهي المساهمة في تخلف الأمة والحؤول دون تقدمها الثقافي والمعرفي. أفليس هذا نوع من الإفساد في الأرض والإضرار بالناس والمجتمع. ألا يشكل التزوير أهم معوقات النشر، أقصدُ النشر بالمعنى الذي تعارف عليه أهل العلم، ومن سبقنا من الأجانب في هذا المضمار.

ولن أتحدث عن دور المروج، الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدر المزور ليقوم بفعلته الشنعاء، لأن محور البحث معوقات النشر وليس التزوير، وما تحدثت عن التزوير إلى كمعوق للنشر السليم. أما التزوير عموماً فيحتاج إلى بحث منفصل.

 

توصيات

 

- أن يعمل الناشرون تحت شعار "الكتاب رسالة والناشرون يبلِّغونها"

"يجب ألا يغيب عن الناشر أنه يلعب دوراً مهماً في التكوين الفكري لمختلف القراء"

- أن يعمل الناشرون لتقديم الكتاب المفيد بالسعر المناسب، مع تجنب السلوك التجاري البحت.

- أن يصدر كل ناشر بعض الكتب على مبدأ الخدمة العامة لا الربح التجاري.

- توعية الناس أن سعر الكتاب العربي ليس فاحشاً كما يتوهمون، وذلك بالمقارنة بينه وبين الكتاب الأجنبي وبينه وبين أية سلعة أخرى.

- العمل على ترويج عادة تقديم الكتاب هدية ذات قيمة معنوية جميلة.

- الدعوة إلى محو الأمية في العالم العربي والسعي لتركيز عادة المطالعة والتعاون بين المعنيين في تحقيق ذلك.

- الطلب إلى أجهزة الرقابة توضيح أسباب منع أي كتاب ولو من باب تدارك المعترَّض عليه، تمهيداً لإلغائها نهائياً.

- التركيز على دور المعارض وتطويرها وتحسين خدماتها وتخفيض كلفتها وتنويعها بحيث يكون بعضها للتعريف بالكتب وبعضها سوقاً للكتب بأسعار مخفضة.

- الطلب من السلطات بإلحاح واستمرار تحقيق ما يلي:

          - رفع القيود عن الكتاب بمختلف أشكالها وأنواعها.

- إلغاء الرسوم الجمركية وغير الجمركية عن الكتاب والمواد الداخلة في تصنيعه.

          - تخفيض أجور البريد على المطبوعات إلى أكبر قدر ممكن.

- تعميم المكتبات العامة ومكتبات المدارس، وشراء كميات من كل عنوان جديد.

          - تخصيص أوقات كافية في محطات "التفزيون" للتعريف بالكتب ومناقشتها.

          - التمني على الصحف أن تخصص مساحات كافية للتعريف بالجديد من الكتب والتعليق عليها.

- السعي لدى المنظمة العربية المختصة لإصدار فهرس عام لما يصدر من الكتب سنوياً، وتوزيع قسم منه على المؤسسات المختصة مجاناً.

-تشجيع رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى على تمويل بعض المشاريع الطباعية والأبحاث والدراسات. (كتب تراث - دراسات- رسائل جامعية) وحذف ما يوظفونه في هذا المجال من الأرباح التي تستحق عليها ضريبة الدخل.

    

  بقلم: أحمد راتب عرموش

 كاتب وناشر- مديـر دار النفائس