الأكثر رواجاً

التاريخ الاسلامي الوجيز

يؤرخ لدول المسلمين من بداية ظهور الإسلام وحتى الانقلاب…

القواعد الفقهية في كنز الراغبين للمحلي

الإلمام بالقواعد الفقهيَّة ضروري لكل طالب علم ولكل…

إعراب القرآن الكريم كبير

أعربت كلمات وجمل كل صفحة من المصحف في الصفحة ذاتها،…

ابحث عن

مؤسس الدار : أحمد راتب عرموش
تأسست سنـــة 1390هـ - 1970م
 

مساحة إعلانية

 
تمت اضافة خاطرة جديدة ضمن اخترنا لك بعنوان:عرب ويهود............................. تم رفع كتاب النشاط السري اليهودي للأستاذ غازي فريج ضمن الكتب المجانية
 
 

وقفة مع مخرجات مؤتمر غروزني وما ترتّب عليها

PDF تحميل

   أ.د. أسعد السحمراني

أستاذ العقائد والأديان المقارنة في جامعة الإمام الأوزاعي-بيروت

الحدث:

أُقيم في غرزوني عاصمة الشيشان من الاتّحاد الروسي مؤتمر علمائي، حضره شيخ الأزهر الشريف الأستاذ الدكتور أحمد محمّد الطيّب، ومفتي مصر الأستاذ الدكتور شوقي علاّم وذلك بتاريخ (25-27) أغسطس/ آب من هذا العام 2016، وكان البيان الختامي الذي تضمّن حصراً لأهل السنّة والجماعة بالأشاعرة والماتريدية، وبأتباع المذاهب الأربعة وهم: الأحناف، والشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، هذا إضافة إلى موقف إيجابي من الصوفية.

وإنّه لا حقّ لمن التقوا في هذا الحصر والتحديد، كما أنّ المشكلة في التوظيف السياسي لمخرجات هذا المؤتمر من أجل تسعير نار الفتنة من جهة، وإشغال الرأي العام عند المسلمين بمباحث عقديّة وفقهيّة استغرقت النقاشات فيها قروناً، واشترك فيها كثيرون، وبقي التنوّع سيّد الموقف.

والسؤال الكبير: هل تأمّل الملتقون وغيرهم المشهد في القدس وفلسطين، وما يجري من تهويد للمقدّسات والتراث والذاكرة التاريخيّة؟ وهل حوّل أحد عينيه ليعرف ما يتعرّض له الأهل في أرض فلسطين المحتلّة من عدوان، وأسر، وإفقار؟ وقبل هذا وبعده سؤال: أين الجهود العلمائيّة في السعي لوأد الفتن وحقن الدماء في الأمّة، حيث الاقتتال والتخريب والاستباحة للحرمات؟ وأين الجهود العلمائيّة والإعلاميّة في استكشاف أسباب التأخّر والتخلّف، وفي وضع الخطط والمقاصد للنهضة وصناعة التقدّم؟ وأين الجهود في غرس فضائل الخلق، والقيم السامية في نفوس الناشئة؟

وتطول قائمة الأسئلة، لكن التوجيه إنّما هو إلى أمرين:

1-   وقف الاستغلال من بعضهم للشعارات الدينية كي يستروا بها ما تختزنه نفوسهم المريضة من أغاليط، ونزعات غير سويّة.

2-   أن توظّف الجهود في العلم الوظيفي الذي تحتاجه الأجيال أمام ما يعترضها من تحدّيات؛ أي: التزام الحديث النبوي الشريف الآتي: "عن جابر، أنّ رسول الله تعالى عليه الصلاة والسلام كان يقول: اللهم إنّي أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علم لا ينفع." [1] قال الهيثمي: لجابر عند ابن ماجه (في السنن): "سلوا الله علماً نافعاً"، وهذا أنّه سأل نفسه. رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن.

 

تأصيل قرآني:

إنّ الوقوف عند موضوع الانقسام في أمور عقديّة، وما تبعه من مدارس في علم التوحيد، أو علم الكلام – كما اشتهر- يعود في الأصل إلى ما نزل وحياً في هذه الآية الكريمة، وهي قول الله تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأُخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّه وما يذّكر إلاّ أولو الألباب.﴾ (سورة آل عمران، الآية 7).

والموقف الأوّل من الحديث النبوي الشريف، وهو : "حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا أبو الوليد الطيالسي، حدّثنا يزيد بن ابراهيم، حدّثنا ابن أبي مُليكة، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة، قال: سئل رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات إلى آخر الآية، فقال رسول الله: إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم."[2]

وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

قال الراغب الأصفهاني: "المحكم ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى."[3] وقال أيضاً: "والمتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إمّا من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده. ... والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإنّ تلك الصفات لا تتصوّر لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نُحسّه، أو لم يكن من جنس ما نحسّه. ... وقول الأصمّ: المحكم ما أُجمِع على تأويله، والمتشابه ما اختُلِف فيه."[4]

ورد في تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): "قال محمد بن جعقر بن الزبير: المحكمات: هي التي فيها حجّة الربّ، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عمّا وُضِعن عليه.

والمتشابهات: لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهنّ العباد. ... قال النحاس: أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات: إنّ المحكمات ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج أن يُرجع فيه إلى غيره. نحو ﴿ولم يكن له كفواً أحد﴾ (الإخلاص، الآية4) ﴿وإنّي لغفّار لمن تاب﴾ (طه، الآية 82). والمتشابهات نحو ﴿إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً﴾ (الزمر، الآية 53) يُرجع فيه إلى قوله جلّ وعلا: ﴿ وإنّي لغفّار لمن تاب﴾ (طه، الآية 82) وإلى قوله تعالى: ﴿ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به﴾. (النساء، الآية 48). قلت: ما قاله النحّاس يبيّن ما اختاره ابن عطيّه، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أنّ المحكم اسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شكّ في أنّ ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردّد، وإنّما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته واتّفاق تركيبها، ومتى اختلّ أحد الامرين جاء التشابه والإشكال."[5]

قال كاتب هذه المقالة حول المصطلحين ما يلي: "فالمحكمات ليس فيهنّ التباس على الفهم، وفيهنّ كلّ ما يتعلّق بالأحكام، والنظم، والفرائض التي يجب على المسلم التزامها، أو أسس العقيدة، وإليهنّ يرجع المؤمنون في التعرّف على الضوابط الشرعية ولذلك ﴿هن أم الكتاب﴾ (آل عمران، الآية7).

والمتشابهات فيهنّ حديث عن الغيب أو عن أسماء الله تعالى وصفاته، ولا يعلم حقيقتهن إلاّ هو تعالى، ومن واجب المسلم أن يأخذ هذه الآيات كما وردت في القرآن الكريم حتى لا يكون
في محاولته تأويلها أو تفسيرها، تجاوز لضوابط الشريعة، وإنّما يعود في محاولة فهمها، ومعرفة القصد منها فقط، من دون التأويل وما شابه ذلك، إلى المحكمات اللواتي هنّ أمّ الكتاب...

وإذا حاول من في قلوبهم زيغ اتباع المتشابه، فمن واجب المؤمن الصحيح الالتزام،
السليم الفطرة، أن يغادرهم حتى لا يفسدوا عليه عقيدته."[6]

هذا ما فعله الإمام مالك بن أنس، فقيه المدينة المنوّرة وعاشقها عندما جاءه رجل يسأله حول قوله تعالى: ﴿ الرحمن على العرش استوى﴾ (طه، الآية 5)، فقال: "الاستواء معلوم، والكيفيّة مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة."[7]

وهذا المنهج هو ما التزمه أهل السلف الذين لم يتعرّضوا للتأويل، ولا تهدّفوا للتشبيه، ومنهم غير مالك بن أنس، الإمام أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وداود بن علي الأصفهاني مؤسّس المذهب الظاهري، وقد برز من علماء هذا المذهب في الغرب الإسلامي ابن حزم الأندلسي.

عناوين وتعريفات لها ارتباط بالموضوع:

إنّ عوامل عديدة تهيّأت من خلالها المناخات لانطلاق أكثر من نظريّة في علم الكلام، وكانت كلّها تدور في مسائل العقيدة، منها: التوحيد، ورؤية الله تعالى يوم القيامة، والصفات، والخلق والقدرة، والتحسين والتقبيح، والعدل والأصلح، ومسألة القرآن وخلقه... الخ.

من المدارس في علم الكلام أو علم التوحيد ما يلي:

 

أوّلاً: السلفية: اتّباع نهج السلف في عهد النبوّة، وعندهم الأخذ بالسمع أو النقل واجب، والنقل أو النصّ في القرآن الكريم والسنّة النبويّة هما المصدر والمرجعيّة في الحكم على الأشياء والأفعال. وقد دفع أمر مواجهة الإمام أحمد بن حنبل للمعتزلة، وما حلّ به بسبب ذلك زمن الخليفة العباسي المأمون المعتزلي الهوى، إلى القول: إنّ أتباع مذهب ابن حنبل هم السلفيّة، وبعده أُطلِق الاسم على ابن تيمية، ومن بعده على محمد بن عبد الوهاب.

لكنّ الأولى أن يتعرّف المعنيّون على مواقف السلفيّة وهي:

"1- إنّ الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزليّة لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له. ... الله تعالى عدل في أفعاله، بمعنى أنّه يتصرّف في ملكه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

2- الواجبات كلّها بالسمع، والمعارف كلّها بالعقل، فالعقل لا يحسّن، ولا يقبّح، ولا يوجب."[8] وبذلك يكون الإنسان مكلفاً بعد أن يتلقى الشريعة ويعرفها، ثمّ يأتي دور العقل بعد ذلك.

"3- خلق الله تعالى في الإنسان أداة الإرادة، وهي العقل، واداة الاختيار وهي الجوارح، فهو يفعل ما يريد بلا إكراه ولا إجبار، وإذا نُسب عمل الإنسان إلى الله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ (سورة الصافات، الآية 96) فمن جهة أنّه هو الذي خلق في الإنسان أداة الإرادة والاختيار، وإذا نُسِب العمل إلى الإنسان فمن جهة أنّه هو الذي اختاره وفعله، ولذلك صحّ أن يُحاسب عليه، فهو يعمل العمل يعلم الله تعالى ولكن باختياره هو."[9]

والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزّة والعظمة. ولا يفرّقون بين صفات الذات، وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً.

وكذلك يثبتون صفات جبرية مثل اليدين والوجه، ولا يؤولون ذلك، إلاّ أنّهم يقولون، هذه الصفات قد وردت في الشرع، فنسميها صفات جبريّة."[10]

4- وأجمع أهل السنّة على أنّ الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كلّ حال، ولكلّ حيّ من طريق العقل، ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصّة في الآخرة من طريق الخبر."[11] والخبر هو قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة﴾(سورة القيامة، الآيتان 22، 23).

5- "وأجمعوا على أنّ كلام الله عزّ وجلّ صفة له أزلية، وأنّه غير مخلوق، ولا محدث ولا حادث... وقلنا: لا يجوز حدوث كلامه فيه لأنه ليس بمحل للحوادث، ولا في غيره لأنّه يوجب أن يكون غيره به متكلّماً آمراً ناهياً ولا في غير محل، لأنّ الصفة لا تقوم بنفسها فبطل حدوث كلامه وصحّ أنه صفة له أزلية."[12]

ومسألة قول المعتزلة بأنّ القرآن مخلوق كانت لها تداعياتها، وأبرز ذلك ما تعرّض له الإمام أحمد بن حنبل من سجن وتعذيب عند الخليفة المأمون العباسي حين حرّضه المعتزلة على إيذاء الإمام ابن حنبل. وعند السلفية: القرآن هو كلام الله تعالى، وهو غير مخلوق.

هذه أبرز مواقف مدرسة أهل الحديث، أو السلفية، أو من يأخذون بالنصّ، وأنّ النقل عندهم هو الأصل وبعده يكون دور العقل.

 

ثانياً: المعتزلة:

المؤسّسان هما: واصل بن عطاء (ت131هـ) وعمرو بن عبيد (ت142هـ) اللذان كانا يدرسان في حلقة الحسن البصري (ت110هـ)، وسبب انفصالهما عنه التباين والاختلاف في مواقف منها الحكم على مرتكب الكبيرة وسواه، وعندها قال الحسن البصري: لقد اعتزلنا واصل، فذهب الاسم مذهب اسم العلم، وباتوا يسمّون مع أتباعهم: المعتزلة.

قال الإمام محمد أبو زهرة: "قال أبو الحسن الخياط في كتابه (الانتصار): وليس يستحقّ أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا جُمِعت هذه الأصول، فهو معتزلي.

هذه هي الأصول الجامعة لمذهب المعتزلة، فكلّ من يتحيّف طريقها، ويسلك غير سبيلها، فليس منهم ولا يتحمّلون إثمه."[13]

وممّا عليه مذهب الاعتزال، ما يلي:

1- لقد بالغ المعتزلة في الحديث عن دور العقل، فهو عندهم سبيل إلى معرفة الله تعالى، ولذلك قالوا: إنّ الإنسان مكلّف ما دام عنده عقل ويستطيع التفكير، وأنّ العقل مدار الحساب، وهو الذي يحدّد ما على الإنسان فعله من الطاعات، وأمّا بعثة الأنبياء والرسل فهي لطف إلهي، ولو لم يكن رسل ورسالات؛ يكون الإنسان مكلفاً. ودفعهم ذلك إلى إطلاق العنان للعقل في التأويل، وأنّ ما يصل إليه العقل هو الثابت، وفهم الشرع تابع لمخرجات العقل.

وقد جاء عند الشهرستاني في هذا الموضوع: "واتّفقوا على أنّ أصول المعرفة، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السمع، والحُسن والقُبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن، واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى، أرسلها للعباد بتوسّط الأنبياء عليهم السلام امتحاناً واختباراً." [14] قال الله تعالى: ﴿ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة﴾. (سورة الأنفال، الآية 43).

2- أحدث المعتزلة فتنة في مسألة الصفات، وذهبوا إلى القول: إنّ صفات الله تعالى؛ وهي: القدير- المريد – العليم – القيّوم... الخ، ليست مضافة إلى الذات، إنّما هي عين الذات.

قال أبو الهذيل العلاّف(ت226هـ) من أعلام المعتزلة: "إنّ الباري تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته، قادر بقدرة، وقدرته ذاته. حيّ بحياة، وحياته ذاته. ... وإنّما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته، بل هي ذاته."[15]

3- الفتنة الثالثة كانت قولهم: إنّ القرآن الكريم، كلام الله تعالى، مخلوق، وقد ذكر البغدادي: "اتّفاقهم على القول بحدوث كلام الله عزّ وجلّ حادث، وأكثرهم اليوم يسمونه كلامه مخلوقاً."[16]

وأبرز ما حدث بسبب قولهم هذا من الفتن، هو ما تعرّض له الإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ)، وممّا جاء في موضوع هذه المحنة عند ابن كثير: "إنّ المأمون قد استحوذ عليه جماعةٌ من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحقّ إلى الباطل، وزيَّنوا له القول بخلق القرآن، ونفي الصفات عن الله عز وجل. ... فلمّا وَلِيَ هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك، وزيّنوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو بلاد الروم، فكتب إلى نائبه ببغداد، إسحاقَ بن إبراهيم بن مصعب، يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخَلْق القرآن. ... واستمرّ على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري، فحُملا على بعير وسيّرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيّدان. ... فلما كانا ببلاد الرحبة، جاءهما رجل من الأعراب، يقال له: جابر بن عامر، فسلّم على الإمام أحمد، وقال له: يا هذا إنّك وافد الناس، فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنّك رأس الناس اليوم، فإيّاك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحبّ الله –تعالى- فاصبِرْ على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقتَل، وإنك إن لم تُقتَل تَمُتْ، وإن عِشْتَ عشت حميدًا."[17]

واستمرّ السجن والتعذيب لابن حنبل حتّى وفاة المأمون عام 218هـ، وبعده في عهد المعتصم، وبعد مناظرات أفرج عنه، وقد ضُرِب في السجن، ومُنِع الماء أحياناً، ومُنِع كل ما هو لوازم الحياة، فصبر.

إنّ هذه الواقعة تبيّن كيف يوظّف بعضهم الشعارات المزعوم أنّها دينيّة مع السلطويين لينالوا من العلماء والفقهاء، وهذا درس مهم لواقعنا اليوم.

4- قال المعتزلة بالعدل، ورعاية الله تعالى للأصلح: وقد أحسن الشهرستاني الصياغة في عرض ذلك منسوباً إلى واحد من رؤوس المعتزلة هو ابراهيم النظّام (ت231هـ)، وقول النظام هو: "إنّ الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري تعالى، ... ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم، وزاد أيضاً على هذا الاختباط، فقال: إنّما يقدر على فعل ما يعلم أنّ فيه صلاحاً لعباده. ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم. هذا في تعلّق قدرته بما يتعلّق بأمور الدنيا.

وأمّا أمور الآخرة، فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئاً، ولا على أن ينقص منه شيئاً. وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنّة، ولا أن يُخرج أحداً من أهل الجنّة، وليس ذلك مقدوراً له. وقد ألزم عليه أن يكون الباري تعالى مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله. ...

وإنّما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة، حيث قضوا بأنّ الجواد لا يجوز أن يدّخر شيئاً لا يفعله. فما أبدعه وأوجده هو المقدور، ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظاماً وتركيباً وصلاحاً لفعله."[18]

إنّ هذا الموقف خطير على العقيدة فصاحبه يحجر على الله تعالى، ويقول بمحدودية قدرته تعالى عمّا يزعمون، والمعلوم أنّ العدل الإلهي نابع من تصرّف الخالق سبحانه بالمخلوقات فهو خالقها ومالكها، وقد خلق كلّ كائن بقدر وقدرة، وكلّ واحد محاسب على ما يستطيعه، وعلى ما في وُسعه.

5- لقد أنكر المعتزلة الرؤية في اليوم الآخر التي هي جائزة للمؤمنين؛ قال الله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة.﴾(سورة القيامة، الآيتان 22، 23).

وفي الحديث النبوي الشريف: " حدّثنا عبد بن حميد، أخبرني شبابة بن سوار، عن إسرائيل، عن ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام: إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة لَمَن ينظر إلى جِنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة."[19]، ثمّ قرأ رسول الله: ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة.﴾

وفي الباب نفسه أخرج الترمذيّ: "عن صهيب، عن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، نادى منادٍ: إنّ لكم عند الله موعداً، ألم يبيّض وجوهنا وينجّنا من النار، ويدخلنا الجنّة؟ قالوا: بلى، فيكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر إليه."

وموقف المعتزلة: "قولهم باستحالة رؤية الله عزّ وجلّ بالأبصار، وزعموا أنّه لا يرى نفسه، ولا يراه غيره."[20]

6- يأتي في مذهب المعتزلة القول: إنّ العبد خالق لأفعاله، وهو مسؤول عنها. قال الشهرستاني: "واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرّها. مستحقّ على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة. والربّ تعالى منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم."[21]

وحجّتهم في القول: إنّ العبد خالق لأفعاله، وأنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون خالقاً لأفعال العباد، هو أنّ أفعال العباد فيها ما هو ظلم وجور أو فساد، ولو كان الله تعالى خالقاً لأفعال العباد لوجب أن يُنسب كلّ ذلك إلى الله تعالى، وهذا لا يجوز في حقّ الله تعالى.

هذه بعض أفكار المعتزلة ومواقفهم، وقد كانت محلّ رفض من علماء الأمّة، وصُوِّبت لهم سهام النقد، وأحياناً ما هو أكثر من النقد.

 

ثالثاً: الأشعريّة:

أتباع أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري (ت324هـ) ويعود في نسبه إلى الصحابيّ أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه. قال الأشعريّ في كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة): "فإنّ كثيراً من الراغبين عن الحقّ، من المعتزلة، وأهل القدر قالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فأولوا القرآن على آرائهم تأويلاً لم ينزل به الله سلطاناً، ولا أوضح به برهاناً، ولا نقلوه عن رسول ربّ العالمين، ولا عن السلف المتقدّمين."[22]

وقد اشتهر أبو الحسن الأشعري بأنّه يمثّل الاعتدال في العقيدة، وأمور الشريعة في كلّ الأمور، ولنترك له التعريف بما هو معتمد عنده، فقد قال:

"وديانتنا التي ندين بها:

التمسّك بكتاب الله ربنا عزّ وجلّ، وبسنّة نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به عبد الله أحمد بن حنبل -نضّر الله وجهه ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنّه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحقّ، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين، وزيّغ الزائغين، وشكّ الشاكين، فرحمة الله عليه، من إمام مقدّم وجليل، معظّم وكبير."[23]

أمّا ما ردّ به الأشاعرة على المعتزلة وسواهم، فهو ما يلي:

1- الشرع والعقل: لم يهمل الأشاعرة دور العقل، ولا حطّوا من مكانته، لكنّهم قدّموا الشرع، وقالوا بأنّهما معاً مناط التكليف، قال الله تعالى: ﴿وقالوا لو كنّا نسمع ونعقل ما كنّا في أصحاب السعير﴾(سورة الملك، الآية 10).

فالإنسان مكلّف بعد أن يصله البلاغ بالرسالة، وبعدها يأتي دور العقل للفهم والتعقّل، والاختيار، والفعل والتنفيذ بعد ذلك.

قال الراغب الأصفهاني (ت502هـ) من الأشاعرة: " اعلم أنّ العقل لن يهتدي إلاّ بالشرع، والشرع لا يتبيّن إلاّ بالعقل. فالعقل كالأسّ، والشرع كالبناء، ولن يُغني أسّ ما لك يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أسّ. وأيضاً فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني شعاع ما لم يكن بصر."[24]

فموقف الأشاعرة لا يقوم على تقديم العقل، والقول: إنّ العقل مناط التكليف، وإنّ الحُسْن والقُبْح يميّز بينهما العقل، ولا هم يقولون بتعطيل العقل والاكتفاء بالشرع والنقل فقط، بل إنّ مذهب الأشاعرة أساسه التظاهر بين الشرع والعقل، وأنّ مناط التكليف هما معاً، وإذا فُقِد أحدهما لم يكن الإنسان مكلفاً.

وقد تجلّى المفهوم عند الراغب الأصفهاني الأشعري عقيدة بصورة أخرى، حيث قال: "فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان ولكون الشرع عقلاً من خارج سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن نحو قوله-تعالى:﴿صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون﴾ (سورة البقرة، الآية 171).

ولكون العقل شرعاً من داخل قال في وصف العقل: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم﴾ (سورة الروم، الآية 30) فسمّى العقل ديناً.

ولكونهما متّحدين قال: ﴿نورٌ على نور﴾ (سورة النور، الآية 35)؛ أي: نور الشرع ونور العقل. ثمّ قال: ﴿يهدي الله لنوره من يشاء﴾ (سورة النور، الآية 35)؛ فجعلهما نوراً واحداً."[25]

2- الصفات والذات: لقد أثبت أهل السنّة والجماعة، ومنهم الأشاعرة، الأسماء والصفات لله تعالى كما وردت في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، وعارضوا القياس والتأويل فيها كما فعل المعتزلة حين قالوا: الصفات عين الذات الإلهيّة، وليست مضافة إلى الذات العلية.

قال البغدادي في هذا الباب عن معتقد أهل السنّة والجماعة: "إنّ علم الله تعالى، وقدرته، وحياته، وإرادته، وسمعه، وبصره، وكلامه صفات له أزلية، ونعوت له أبدية."[26]

وقد اعترض الأشعريّة على المعتزلة في مسألة الأسماء والصفات، ومن المعتزلة المغالين كان أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبّائي (ت295هـ)، وقد ردّوا عليه، وممّا قالوه: "إنّ مأخذ أسماء الله تعالى التوقيف عليها، إمّا بالقرآن، وإمّا بالسنّة الصحيحة، وإمّا بإجماع الأمّة عليه، ولا يجوز إطلاق اسم عليه – تعالى- من طريق القياس. وهذا خلاف قول المعتزلة البصرية في إجازتها إطلاق الأسماء عليه بالقياس، وقد أفرط (الجبّائي) في هذ1 الباب. ... فقال أهل السنّة: قد جاءت السنّة الصحيحة بأنّ لله تعالى تسعة وتسعين اسماً."[27]

هذا القول يستند إلى قول الله تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يُلحِدون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون.﴾(سورة الأعراف، الآية 180)

جاء في تفسير القرطبي: "وقال القاضي أبو بكر في كتاب (التمهيد): وتأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: لله تسعة وتسعون اسماً، من أحصاها دخل الجنة؛ أي: أنّ له تسعة وتسعين تسمية بلا خلاف، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتّى، منها ما يستحقّه لنفسه، ومنها ما يستحقّه لصفةٍ تتعلّق به، وأسماؤه العائدة إلى نفسه هي هو، وما تعلّق بصفةٍ له فهي أسماء له. ومنها صفات لذاته. ومنها صفات أفعال. وهذا هو تأويل قوله تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ أي: التسميات الحسنى.

سمّى الله سبحانه أسماءه بالحسنى؛ لأنّها حسنة في الأسماع والقلوب، فإنّها تدلّ على توحيده، وكرمه، وجوده، ورحمته، وإفضاله. والحسنى مصدر وصف به-سبحانه-."[28] وتكرّر الكلام عن أسماء الله تعالى الحسنى وذُكِر بعضها في سورة الحشر الآيات (22-24).

وهناك في الحديث النبوي الشريف ما يفيد الدلالات نفسها، نكتفي بحديث هو: "حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو داود الخَفْري، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة، عن عبدالله بن الحارث، عن طُليق بن قيس، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ عليه الصلاة والسلام يدعو يقول: ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر لي الهدى، وانصرني على من بغا عليّ، ربّ اجعلني شكاراً لك ذكاراً، لك رهّاباً، لك مطواعاً، لك مخبتاً، إليك أوّاهاً منيباً، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهدِ قلبي، واسلِل سخيمة صدري."[29]

قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

وقد أخذ الأشاعرة النصوص كما هي، ولم يقبلوا التأويل الذي اعتمده المعتزلة، وممّا جاء في هذا الموضوع عند أبي الحسن الأشعري، مؤسّس المذهب:

"قال الله تعالى: ﴿كلّ شيء هالك إلاّ وجهه﴾ (سورة القصص، الآية 88)، وقال تعالى: ﴿ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام﴾ (سورة الرحمن، الآية 27) فأخبر أنّ له سبحانه وجهاً لا يفنى، ولا يلحقه الهلاك.

وقال تعالى: ﴿تجري بأعيننا﴾ (سورة القمر، الآية 14) ﴿واصنع الفلك بأعيننا ووحينا﴾ (سورة هود، الآية 37)، فأخبر تعالى أنّ له وجهاً وعيناً لا بكيف ولا حدود.

... وقال لموسى وهارون – عليهما أفضل الصلاة والسلام-: ﴿إنّني معكما أسمع وأرى﴾(سورة طه، الآية 46)، فأخبر تعالى عن سمعه وبصره ورؤيته."[30]

فكلّ ما ورد في النصوص القرآنيّة يأخذ بها الأشعريّة، ولا يطلقون العنان للتأويل وطرح الأقاويل خوف الزلل، والشطط عن جادّة الصواب. والأمر نفسه كان في موقفهم من مسألة الاستواء، حيث أخذوها كما هي ولم يوافقوا على ما قام به المعتزلة من تأويلات أبعدتهم عن الطريق السويّ. قال الأشعري: "إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟

نقول لهم: إنّ الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق به من غير حلول واستقرار، كما قال –تعالى- ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (سورة طه، الآية 5)."[31]

3- رؤية الله يوم القيامة: قال الله تعالى: ﴿وجوه يومئذٍ ناضرة * إلى ربّها ناظرة﴾(سورة القيامة، الآيتان 22، 23)

ورد في تفسير القرطبي: "الأوّل من النضرة التي هي من الحسن والنعمة، والثاني من النظر، أي: وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة. ... إلى (ربّها): إلى خالقها ومالكها، (ناظرة)، أي: تنظر إلى ربّها، على هذا جمهور العلماء."[32]

وقد جاء في الحديث النبوي ما يؤكّد الرؤية، ويدحض تأويلات المعتزلة، وما في الحديث النبوي هو تفسير للآية (إلى ربّها ناظرة). "حدّثنا عبدالله بن عمر بن ميسرة، قال: حدّثني عبدالرحمن بن مهدي، حدّثنا حماد بن سلمة بن ثابت البناني، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيضّ وجوهنا؟ ألم تُدخِلنا الجنّة وتُنجّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم عزّ وجلّ."[33]

وقد أوّل المعتزلة مسألة الرؤية، وأعطوها معاني من مثل: ينتظرون الثواب؛ أمّا أبو الحسن الأشعري، فقد أخذ بالآية كما وردت، وقال بأنّ الرؤية حاصلة للمؤمنين يوم القيامة. قال الأشعري: "قال الله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة﴾ يعني مشرقة ﴿إلى ربّها ناظرة﴾ يعني رائية.

... فلا يجوز أن يكون الله –عزّ وجلّ- عنى نظر التفكير والاعتبار لأنّ الآخرة ليست بدار اعتبار. ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار، لأنّ النظر إذا ذُكِر مع ذكر الوجه، فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه."[34]

4- هل القرآن مخلوق: لقد أثار المعتزلة مشكلة تحوّلت فتنة في مسألة هي: هل القرآن مخلوق؟ وقد ردّ عليهم فقهاء المسلمين وعلماؤهم من كلّ الأطياف بشكلٍ حاسم والردّ هو: القرآن الكريم كلام الله تعالى، وهو ملازم للذات الإلهيّة.

"وأجمعت السلف على أنّ القرآن كلام الله –تعالى- غير مخلوق، ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله –تعالى-، ولا نعرف من القرآن إلاّ ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرأه ونكتبه. ... أمّا المعتزلة فوافقونا على أنّ هذا الذي في أيدينا كلام الله، وخالفوا في القدم، وهم محجوجون بإجماع الأمّة."[35]

وقد ألقت هذه الفتنة بأثقالها على المسلمين في عهد الخليفة العباسي المأمون، الذي اعتنق مذهب المعتزلة، وحرّضوه على أمر هو: الطلب من علماء العصر أن يقولوا بخلق القرآن، فقاوم الأعلام، منهم الإمام أحمد بن حنبل وبعض العلماء، فكان أن اتّخذ المأمون وأعوانه قرارهم بوضع أحمد بن حنبل في السجن، وإنزال أشكال من الإهانات والضرب والأذى به.

ونترك الكلام لأبي الحسن الأشعري -صاحب المذهب- الذي قال: " فقال العباس (بن عبد العظيم؛ ت246هـ): ما تقول يا أبا عبدالله؟ فقال: الذي أعتقده وأذهب إليه، ولا أشكّ فيه: أنّ القرآن غير مخلوق. ثمّ قال: سبحان الله، ومن يشكّ في هذا؟ ثمّ تكلّم أبو عبدالله مستعظماً للشكّ في ذلك.

فقال: سبحان الله، أفي هذا شكّ؟ وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ (سورة الأعراف، الآية 54) وقال: ﴿الرحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان﴾ (سورة الرحمن، الآيات 1-3). ففرّق بين الإنسان وبين القرآن فقال: (علّم) (خلق) فجعل يعيدها (علّم) (خلق) أي: فرّق بينهما.

قال أبو عبد الله: والقرآن من علم الله، ألا تراه يقول: ﴿علّم القرآن﴾ والقرآن فيه أسماء الله؛ أي شيء يقولون؟

ألا يقولون أنّ أسماء الله غير مخلوقة، فلم يزل الله تعالى قادراً عليماً، عزيزاً، حكيماً، سميعاً بصيراً.

لسنا نشكّ أنّ أسماء الله غير مخلوقة.

لسنا نشكّ أنّ علم الله غير مخلوق، فالقرآن من علم الله فلا نشكّ أنّه غير مخلوق، وهو كلام الله –عزّ وجلّ- ولم يزل الله به متكلماً.

... ويقولون (المعتزلة) القرآن مخلوق، ويتهاونون به، ويظنّون أنّه هيّن ولا يدرون ما فيه، وهو الكفر، وأنا أكره أن أبوح بهذا لكلّ أحد، وهم يسألون، وأنا أكره الكلام في هذا."[36]

إنّ موقف الأشاعرة حاسم وهو: إنّ القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، وهو غير حادث ولا مخلوق. واللفتة الطيّبة هنا حين ختم الأشعري قائلاً: وأنا أكره أن أبوح به لكلّ أحد. وذلك لأنّ مثل هذه المباحث تكون في حلقات ضيّقة من العلماء المتبحّرين ولا تكون مادّة لكلّ أحد، فالكلام في هذه الموضوعات أمام العامّة هو الفتنة بعينها؛ وهنا نصل إلى السؤال: ما الغرض من طرح هذه الموضوعات في مثل هذه الأيّام؟ وهل ينقص الساحة محرّكات للفتن؟ واقتراحي هو: ارحموا الأمّة والناس، واعملوا لمعالجة أسباب الفتن ولوأدها، بدل صبّ الزيت على نارها!!!

5- العمل والكسب: لقد أثار المعتزلة مشكلة هي أفعال الإنسان، وهي تنقسم إلى صالح وفاسد، وحسن وقبيح، وفاضل ورذيل، ولذلك نسبوها للإنسان، وأنّه خالق لأفعاله، وقد أنكر الأشاعرة ذلك، لأنّ الله تعالى خالق كلّ شيء، ولا يجوز أن ننسب عمليّة الخلق لغيره سبحانه وتعالى، وقد ذهب الأشاعرة للقول بالخلق والكسب.

فالأفعال مخلوقة لله تعالى، وقدرة العبد على الفعل من الله تعالى، والكسب هو من العبد. قال الله تعالى: ﴿لا يكلّف الله نفساً إلاّ وُسْعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ (سورة البقرة، الآية 286)

قال القرطبي في تفسيره: "في هذه الآية دليل على صحّة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسباً واكتساباً، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق، خلافاً لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة."[37] أي: المعتزلة.

قال أبو الحسن الأشعري: "المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة، والحاصل تحت القدرة الحادثة... الفعل الحاصل إذا أراده العبد تجرّد له، ويسمّى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد حصولاً تحت قدرته."[38]

 

رابعاً: الماتريدية:

المؤسّس هو محمّد بن محمّد بن محمود المعروف بأبي منصور الماتريدي (238هـ - 333هـ) من ماتريد أو ماتريت، وهي إحدى قرى سمرقند في بلاد ما وراء النهر؛ أي: نهر جيحون.

كان مناصراً للسنّة في مواجهة البدع، والدفاع عن العقيدة والشريعة. وقد قيل: إنّ رئيسا أهل السنّة والجماعة أبا منصور الماتريدي من أتباع المذهب الحنفي، وأبا الحسن الأشعري من أتباع المذهب الشافعي.

ومواقفه في المسائل المثارة هي:

1- الشرع والعقل: لم يهمل الماتريدي دور العقل، وترك له حقّ النظر في الأشياء، وكان يأخذ بحكم العقل فيما لا مخالفة فيه للشرع، وعند المخالفة يكون الحكم الفصل للشرع.

قال الإمام محمّد أبو زهرة: "إنّ الماتريدي يعتمد على العقل بإرشاد من الشرع، فهو يوجب النظر العقلي، ويخالف بذلك الفقهاء والمحدثين الذين يوجبون الاعتماد على النقل، وطلب الحقّ من النقل، لا من شيء وراء ذلك، خشية أن يقع العقل في الزيغ ويضلّ."[39]

أمّا أبو منصور الماتريدي، فقد قال: " ثمّ أصل ما يُعرف به الدين –إذ لا بدّ أن يكون لهذا الخلق دين يلزمهم الاجتماع عليه، وأصل يلزمهم الفزع إليه- وجهان: أحدهما السمع، والآخر العقل.

أمّا السمع فلا يخلو بشر من انتحاله مذهباً يعتمد عليه، ويدعو غيره إليه. ... وأمّا العقل فهو أنّ كون هذا العالم للفناء خاصّة ليس بمحكمة، وخروج كلّ ذي عقل –فِعْله- عن طريق الحكمة قبيح منه، فلا يحتمل أن يكون العالم – الذي العقل منه جزء- مؤسّساً على غير الحكمة أو مجعولاً عبثاً."[40]

فالسمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الشريعة والحكمة تتكاملان في تكوين العقيدة، واعتماد الشريعة، وبذلك يكون الماتريدي قد رفض مقولات المعتزلة، إلاّ أنّه أعطى مساحة للعقل أوسع ممّا هو الأمر عند السلف من أهل الحديث أو الأثر، أو من الأشاعرة الذين اعتمدوا النقل والشرع حكمة ثمّ يليه دور العقل. وقد دفع هذا الموقف إلى القول: إنّ الأشاعرة كانوا بين السلف والماتريديّة، والماتريدية كانوا بين الأشاعرة والمعتزلة.

وقد أقرّ الماتريدي بدور العقل في مسألة التمييز بين الحُسْن والقُبْح، وهذا يجعله قريباً من المعتزلة، وممّا قاله: "على أنّ البشر خُصّ بملك تدبير الخلائق والمحنة فيها، وطلب الأصلح لهم في العقول، واختيار المحاسن في ذلك واتقاء مضادّة ذلك، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلاّ باستعمال العقول بالنظر في الأشياء... على أنّ محاسن الأشياء ومساوئها، وما قبح من الأفعال وما حسُن منها، فإنّما ﻧﻬاية العلم بعد وقوع الحواس عليها، وورود الأخبار فيها إذا أريد تقرير كلّ جهة من ذلك في العقول، والكشف عن وجوه ما لا سبيل إلى ذلك إلاّ بالتأمّل والنظر فيها، وعلى ذلك أمر المكاسب الضارة والنافعة."[41]

هذا الموقف في ترك أمر الفصل بين المحاسن والمساوئ للنظر العقلي خالف فيه الماتريدي أهل السلف والأشاعرة من أهل السنّة والجماعة، والتقى فيه مع المعتزلة، وميّز نفسه بموقف هو: الرجوع إلى الشرع إذا وقع العقل في المخالفة.

2- الذات والصفات: لقد نفى المعتزلة الصفات، وقالوا: هي عين الذات. وقال الأشعريّة بالصفات، وهي معلومة من السمع والنقل، ومضافة إلى الذات. أمّا أبو منصور الماتريدي فالموقف عنده: "لقد أثبت هذه الصفات، ولكنّه قال ليس شيئاً غير الذات، فهي ليست صفات قائمة بذاتها، ولا منفكّة عن الذات، فليس لها كينونة مستقلّة عن الذات."[42]

وقد عبّر الماتريدي عن ذلك قائلاً:" والأصل في ذلك أنّ الوصف بالكلام، والعلم، والفعل، الحمد عليه، إنّما هو وصف بالبراءة من الآفّات والتعالي عن الوصف... على أنه لو كان يسمّى بما يحلّ في غيره ليجب أن يسمّى بكلّ شيء يحلّ في غيره... يريد بصفات أن لا يثبت ثمة غير، ولم يرد أﻧﻬا ذاته... ما أعرف هذا التائه بالصفات حتى يشرع في تفسير صفات الله، جل الله عن مثل هذا المتحيّر الخيال وتعالى. ولو كانت الصفة في الحقيقة وصف الواصف ليبطل قول الخلق بأن الخلق أعيان وصفات."[43]

يتبيّن مما سلف أنّ الكلام في الصفات عند الماتريدي كان بين بين، ولم يحسم موقفه، وهل هو مع الأشعرية أو مع المعتزلة، وبدا أنّه حين لم يقبل أن تكون الصفات مضافة إلى الذات أن موقفه أقرب إلى مذهب المعتزلة. وقد دفع موقفه الإمام محمّد أبو زهرة إلى القول: " وإنّه بهذا النظر قد قارب المعتزلة، أو بالأحرى يكاد يكون متّفقاً مع المعتزلة، فلا خلاف بين المسلمين في أنّ الله تعالى عليم قادر سميع بصير مريد، وإنّما الخلاف في أنّ هذه الأشياء غير الذات لها كينونة غيرها."[44] وقد نفى المعتزلة أن تكون هناك صفات لها كينونة خاصّة، وردّ عليهم الأشاعرة فقالوا أنّ الصفات غير الذات لكنّها لا تقوم إلاّ بالذات، وأبو منصور الماتريدي قرّر أنّ الصفات ليست شيئاً غير الذات.

3- رؤية الله يوم القيامة: نفى المعتزلة مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة، وحجّتهم أنّ الرؤية محتاجة لمكان، والله تعالى منزّه عن المكانية. وقد أثبت الماتريدي الرؤية كما كان موقف الأشعريّة، والحكم مستفاد من آيات كريمة منها قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة.﴾ (سورة القيامة، الآيتان 22، 23).

وحجّة الماتريدي أنّ الشرع قد أبلغ بالرؤية، وهي من أحوال القيامة، وعلمها خاصّ بالله تعالى، وهذه الرؤية ثابتة بالشرع لكن دون كيف يستطيع أحد من البشر الإحاطة به.

ويفيد أن نترك الكلام للماتريدي في كتابه (التوحيد)، وممّا قاله في مسألة الرؤية: "القول في رؤية الربّ عزّ وجلّ عندنا لازم، وحقّ من غير إدراك ولا تفسير. فأمّا الدليل على الرؤية فقوله تعالى:﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار﴾ (سورة الأنعام، الآية 106) ولو كان لا يُرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة، إذ يدرك غيره بغير رؤية، فموضع نفي الإدراك -وغيره من الخلق لا يدرك إلاّ بالرؤية- لا معنى له.

والثاني: قول موسى عليه السلام: ﴿ربّ أرني أنظر إليك﴾ (سورة الأعراف، الآية 143) فلو كان لا يجوز الرؤية، لكان ذلك السؤال منه جهل بربّه، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعاً لرسالته أميناً على وحيه. وبعد، فإنّ الله تعالى لم ينهه ولا أيأسه."[45]

ثمّ انتقل الماتريدي إلى تفسير قوله تعالى: ﴿إلى ربّها ناظرة﴾ ورفض مقالة المعتزلة أنّ المقصود أنّها في حالة الانتظار للثواب والنعيم، وما قاله الماتريدي هو: "وأيضاً قوله تعالى ﴿وجوه يومئذ ناضرة * إلى رﺑّﻬا ناظرة﴾ ثمّ لا يحتمل ذلك الانتظار لأوجه: أحدها أنّ الآخرة ليست لوقت الانتظار، إنّما هي الدنيا، هي دار الوقوع والوجود، إلاّ وقت الفزع، وقيل إﻧّﻬم يعاينون في أنفسهم ما له حقّ الوقوع. والثاني: قوله ﴿وجوه يومئذ ناضرة﴾ وذلك وقوع الثواب. والثالث: قوله: ﴿إلى رﺑّﻬا ناظرة﴾، و إلى حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار، والرابع: أنّ القول به يخرج مخرج البشارة تعظيم ما نالوا من النعيم، والانتظار ليس منه."[46]

هكذا عارض الماتريدي المعتزلة بشكلٍ حاسم لا كلام فيه، وكان موقفه في إثبات الرؤية متابعة لموقف أهل السنّة والجماعة من أهل السلف والأشاعرة.

4- هل القرآن مخلوق: لقد التزم الماتريدي موقف أهل السلف والأشاعرة في هذه المسألة، وقد عارض كلام المعتزلة أنّ القرآن مخلوق، وقال أنّ القرآن الكريم كلام الله تعالى الملازم لذاته، ولا يجوز أن يقال عنه أنّ مخلوق. وممّا قاله الماتريدي: "فإنّه لا يعدو من أن يعلم أنّه بذاته متكلّم."[47]

ومتكلّم من صفات الله تعالى. وقد أوجز الإمام محمّد أبو زهرة قائلاً: "ولقد جاء الماتريدي، وتخطّى الحجزات فقرّر أنّ كلام الله تعالى هو المعنى القائم بذاته، سبحانه وتعالى، وهو بهذا صفة من صفاته متّصلة بذاته، قديمة بقدم الذات العلية، غير مؤلف من حروف ولا كلمات، لأنّ الحروف والكلمات محدثة لا تقوم بالقديم الواجب الوجود، لأنّ الحادث عرض، والعرض لا يقوم بذاته سبحانه."[48]

فكلام الله تعالى القرآن قديم ملازم للذات الإلهيّة، لكنّ الكلمات والحروف الدالّة على هذا الكلام المرسومة في المصاحف حادثة، وبذلك يكون الماتريدي بين الأشاعرة والمعتزلة في هذا الموقف.

وقوله أنّ الكلام من الصفات الملازمة للذات الإلهيّة: "الأصل أنّ الله عزّ وجلّ قد ثبت وصفه بالكلام بحجّة السمع والعقل، فالسمع قوله ﴿وكلّم موسى تكليماً﴾ (سورة النساء، الآية 164) ذكره بالمصدر مع غير تمانع بين الخلق بكلام الله، وقد وجد الاتّفاق على أنّه متكلّم، وأنّ له كلاماً في الحقيقة. ... وأمّا العقل: إنّ كلّ عالم قادر لا يتكلّم فعن آفّة، يكون من عجز أو منع، والله عنه متعال، ثبت أنّه متكلّم."[49]

لكنّ كلام الله تعالى الخاصّ بذاته سبحانه لا يماثله كلام آخر، فما هو للخالق يختلف عمّا هو للمخلوق، وإذا كان الحدوث منطبقاً على كلام البشر وسواهم، فالحدوث منفي عن كلام الله –تعالى- وبذلك يكون القرآن غير مخلوق؛ هذا ما قاله الماتريدي في النصّ الآتي: "ودلّ قوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾ (سورة الشورى، الآية 11) على نفي الشبه له في الصفات والذات، ... مع القول أنّ الخلق لو اجتمع لا يأتون بمثله فانتفى الشبه، إذ فيه تماثل، فثبت له الخلافية لكلام الخلق جميعاً على ما ثبت لذاته... وإذا ثبت أنّ من الكلام ما لا يبلغ تقديره وُسْع الخلق ولا يبلغه فهم فمن أحبّ تقدير كلام الربّ بذلك مغفّل. وكذلك فعله تعالى خارج عن الوفاق، وفي ثبوت الخلافية من جميع الوجوه نفي الحدثية."[50]

 

خامساً: التصوّف:

يحتلّ الزهد مكانة في الإسلام شريعةً وقيماً، لأنّ الزهد سلوك يميل صاحبه إلى الأخذ من المطالب الدنيوية قدر الحاجة، وقد حضّ الحديث النبوي الشريف على الزهد، والحديث هو: "عن سهل بن سعد الساعدي، قال: أتى النبي عليه الصلاة والسلام رجل، فقال: يا رسول الله دلّني على عمل إذا أنا عملته أحبّني الله، وأحبّني الناس، فقال: رسول الله: ازهد في الدنيا يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبّوك."[51] قال المحدثون: حديث صحيح.

هذا الزهد تحوّل إلى حالات من الانتظام في مجموعات توزّعت في الطرق الصوفيّة، ومصطلح التصوّف لم يكن معروفاً إلاّ بعد العام (150 هـ) حيث أُطلق على أبي هاشم البغدادي، الملقّب أبو هاشم الزاهد، وفي عهود لاحقة انتظم الصوفيون في طرق، وكان لكلّ طريقة صوفيّة شيخها، فلا تصوّف عندهم إلاّ بعد مبايعة شيخ، والقاعدة عند الصوفيّة هي: (من لا شيخ له فشيخه الشيطان).

وقد كان للصوفيّة إسهاماتهم في الدعوة، وفي التربية، وفي الجهاد، وبعضهم انخرط في عداد المتفرّغين في رباطات على الثغور، وآخرون عملوا على نشر الإسلام، وهذا معلوم، حيث في بلاد كثيرة في أفريقيا وآسيا، وفي بعض الدول الأخرى قد انتشر فيها الإسلام من خلال المنتمين للطرق الصوفية كالطريقة القادريّة، والطريقة النقشبندية وغيرها.

لكن هذا الانتماء للطرق لم يمنع أتباع التصوّف من الانخراط في الحياة العامّة في كلّ ما تستلزمه الحياة على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. فالزهد وهو من المقامات الأساسيّة في التصوف ليس هجراً للدنيا، إنّما هو أن تبقى الدنيا في اليدّ ولا تدخل القلب. والحقيقة هي أنّه " لا يختلف الباحثون على أنّ التصوّف نشأ أساساً عن ذلك الزهد الذي اتّصف به النبيّ عليه الصلاة والسلام، والعدد الأكبر من الصحابة أو لتابعين. وكانت حالة الزهد هذه أمراً طبيعيّ الحدوث بفعل النصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة التي تحمل معاني التشجيع للمؤمن على العمل من أجل الآخرة، ومحاولة الإقلاع عن الانغماس في عرض الدنيا الزائل، مع المطالبة بتزكية النفس، والتوكل على الله، والخوف منه تعالى، والرجاء الدائم برحمة الله –تعالى- وغفرانه."[52]

لكنّ التصوّف هو حالة تزكية للنفس، وتهذيب للسلوك، ومداومة على الذكر، كان كلّه متّجهاً للجانب الجوّاني من الإنسان، لم يستغن عن علوم الشريعة من علوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، وعلم اللغة، وغيرها، وإلاّ مني السالك بالميل عن جادّة الحقّ، ووقع في الشطح الذي هو انحراف ترافقه رائحة رعونة.

وقد قال أبو طالب المكيّ في هذا الموضوع: "حدّثونا عن الجنيد، قال: كنت إذا قمت من عند سري السقطي، قال لي: إذا فارقتني، من تجالس؟ فقلت: الحارث المحاسبي، فقال: نعم، خذ من علمه وأدبه... قال: فلما ولّيت سمعته يقول: جعلك اللّه صاحب حديث صوفياً، ولا جعلك صوفياً صاحب حديث.

يعني أنّك إذا ابتدأت بعلم الحديث، والأثر، ومعرفة الأصول والسنن، ثمّ تزهّدت وتعبّدت تقدّمت في علم الصوفية، وكنت صوفياً عارفاً، وإذا ابتدأت بالتعبّد والتقوى والحال شُغِلت به عن علم السنن، فخرجت إمّا شاطحاً أو غالطاً، لجهلك بالأصول والسنن، فأحسن أحوالك أن ترجع إلى علم الظاهر وكتب الحديث، لأنّه هو الأصل الذي تفرّع عليه العبادة والعلم."[53]

هذه الضوابط التي وضعها أبو طالب المكيّ-وهو من أعلام الصوفيّة- يحتاجها كلّ سالك في الطريق الصوفيّ، فالأصل علم الظاهر؛ أي: علوم الشريعة والفقه، وبعده يكون علم الباطن الذي هو التصوّف، لأنّ التصوّف قبل تحصيل ما هو ضروري من علوم الشريعة يقود صاحبه إلى ما لا تحمد عقباه.

والتصوّف ليس مذهباً عقدياً أو فقهياً، وإنّما سلوك ومنهج حياة، وبذلك يستطيع كلّ مسلم أن يسير في مسار حياته باتّجاه تزكية النفس والتصوّف شرط أن يكون الفقهاء هم المرجعيّة. وهذا الأمر قرّره أحد أعلام الصوفيّة السراج الطوسي الذي قال: "[فالصوفيون] اتّفقوا مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم، وقبلوا علومهم، ولم يخالفوهم، في معانيهم ورسومهم،إذا كان ذلك مجانباً من البدع واتّباع الهوى، ومنوطاً بالأسوة والاقتداء، وشاركوهم بالقول والموافقة في جميع علومهم ولم يخالفوهم، ومن لم يبلغ من الصوفية مراتب الفقهاء، وأصحاب الحديث والدراية والفهم، ولم يحط بما أحاطوا به علماً، فإنّهم راجعون إليهم في الوقت الذي يُشكِل عليهم حكم من الأحكام الشرعيّة، أو حدّ من حدود الدين، فإذا اجتمعوا فهم في جملتهم فيما اجتمعوا عليه، وإذا اختلفوا فاستحباب الصوفية في مذهبهم الأخذ بالأحسن والأولى والأتمّ احتياطاً للدين وتعظيماً لما أمر الله به عباده."[54]

كلّ ما سبق ذكره يبيّن طريق التصوّف القويم الذي يتّخذ الفقهاء والعلماء مرجعاً في الأحكام التزاماً واحتياطاً من الوقوع في الخطأ والزيغ، ولذلك انتشر التصوّف بين المسلمين ولا يزال، ومن في فضاء التصوّف يعدّون مئات الملايين، ولهم عبر التاريخ مساهماتهم في الدعوة، وفي الرباط على الثغور، وفي مقاومة الاستعمار، والنماذج كثيرة منها: خروج أبي الحسن الشاذلي شيخ الطريقة على رأس المقاومة للويس التاسع الفرنسي يوم حاول غزو مصر اوائل القرن الرابع عشر للميلاد، وصولاً إلى دور الصوفية في الرباط في الغرب الإسلامي، وذلك مثل مقاومة عمر المختار في ليبيا، والطرق الصوفيّة المقاومة ضدّ المحتلّ الفرنسي في الجزائر، وغير ذلك كثير.[55]

وقد عرف تاريخ التصوّف بعض من حادوا عن المنهج القويم، والصحيح في الحكم أن نختم بما قاله أحد أعلام المنهج السلفي ابن تيمية حول الصوفيين، وقوله هو: "الصواب أنّهم مجتهدون في طاعة الله –تعالى-، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كلّ من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاصٍ لربّه."[56]

وقد أتى كلام ابن تيمية من خلال الآية الكريمة: ﴿ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير.﴾ (سورة فاطر، الآية 32)

 

 

نصوص تأسيسيّة للوحدة

 

الإسلام دين الرحمة والسماحة، ودين الرفق في الأمور كلّها، ورسالة الإسلام تنصّ على احترام كرامة الإنسان، ولا يتلاءم معها أيّ موقف تعصّبي أو فئوي، أو أيّ موقف يدفع الاجتماع البشري إلى الفتن والتباغض والاقتتال.

لقد جاءت نصوص قرآنية كثيرة يحتاجها المجتمع الإنساني عامّة لا المسلمين فقط، يفيد التذكير بها علّ الذكرى تنفع المؤمنين، وعلّها تهزّ الغافلين لتوقظهم من الغفلة.

1- قال الله تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أُم الكتاب وأُخر متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربنا وما يذّكر إلاّ أولو الألباب.﴾ (سورة آل عمران، الآية 7)

2- وقال تعالى: ﴿يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير.﴾ (سورة الحجرات، الآية 13)

3- وقال تعالى: ﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة إنّ الله على كلّ شيء شهيد.﴾ (سورة الحج، الآية 17)

4- وقال تعالى:﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.﴾ (سورة الحج، الآية 11)

5- وقال تعالى: ﴿ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم كذلك زيّنا لكلّ أمّة عملهم ثمّ إلى ربّهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون.﴾ (سورة الأنعام، الآية 108)

6- وقال تعالى: ﴿ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.﴾ (سورة النحل، الآية 125)

7- وقال تعالى: ﴿وإنّا أوإيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.﴾ (سورة سبأ، الآية 24)

8- وقال تعالى: ﴿واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أنّ الله شديد العقاب.﴾ (سورة الأنفال، الآية 25)

 

ومن الأحاديث النبويّة التأسيسيّة في هذا الباب:

1- " عن حذيفة، قال: قال رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام:

لا تكونوا إمّعة تقولون: إنّ أحسن الناس أحسنّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم؛ إنّ أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا."

أخرجه الترمذي في (الجامع المختصر) في كتاب (البرّ والصلة) في باب (ما جاء في الإحسان والعفو).

2- "عن أبي الدرداء، عن النبيّ عليه الصلاة والسلام، قال:

من أعطي حظّه من الرفق فقد أُعطي حظّه من الخير، ومن حُرِم حظّه من الرفق فقد حُرِم حظّه من الخير."

أخرجه الترمذي في (الجامع المختصر) في كتاب (البرّ والصلة) في باب (ما جاء في الرفق).

3- "عن أنس بن مالك، أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام، قال:

لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً."

أخرجه مسلم في (الصحيح) في كتاب (البرّ والصلة والآداب) في باب (النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر).

4- "عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام: مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى."

أخرجه مسلم في (الصحيح) في كتاب (البرّ والصلة والآداب) في باب (تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم).

5- "عن أنس بن مالك، أنّ رسول الله –تعالى- عليه الصلاة والسلام؟ن قال:

من قُتِل تحت راية عِمّيّة، يدعو إلى عصبيّة، وينصر عصبيّة، فقتلته جاهليّة."

أخرجه أبو بكر الهيثمي في (مجمع الزوائد) في كتاب (الديّات) في باب (فيمن قاتل لعصبيّة).

 

بعد النصوص القرآنيّة والحديثية التي تؤسّس للوحدة، وتنهى عن الفتن والعصبيات والانقسام والفرقة، يأتي دور بعض المواثيق والمواقف المرجعيّة التي يُستحسن التذكير بها وهي:

1- أصدر شيخ الأزهر الإمام محمود شلتوت فتوى يوم كان شيخاً للأزهر في الستينيات من القرن العشرين[57]، وممّا جاء فيها:

"1- إنّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معين، بل نقول: إنّ لکلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد، بادئ ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوّنة أحکامها في کتبها الخاصة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره -أي مذهب کان- ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

2- إنّ مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الإمامية الإثنا عشرية، مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلّصوا من العصبية بغير الحقّ لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله، وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى."

تأسيساً على هذه الفتوى أُضيف تدريس المذهب الجعفري في مقرّرات الفقه في كليّات جامعة الأزهر، وحالنا اليوم تحتاج العودة إلى مثل هذا الموقف التوحيدي الذي تكون له حصّته في معالجة الفتن التي أتت على كثير من البشر الحجر.

2- الموقف الثاني: وهو موقف جامع صدر عن (مجمع الفقه الإسلامي الدولي) وهو من مؤسّسات (منظّمة التعاون الإسلامي) التي كانت تسمّى (منظّمة المؤتمر الإسلامي) وفي عضويّة المجمع كلّ الدول والمرجعيّات، ويستعان في جلساته بخبراء من العلماء في مختلف الاختصاصات.

انعقد المجمع في دورته السابعة عشرة في عمّان، وذلك في 28 جمادى الأولى إلى 2 جمادى الآخرة من العام 1427هـ، الموافق فيه (24-28) حزيران/يونيو 2006م، وقد أصدر (مجمع الفقه الإسلامي الدولي) بعد هذا الانعقاد القرار رقم (152) والموقف الآتي:

" إنّ كلّ من يتبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنّة والجماعة (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الأباضي، والمذهب الظاهري، هو مسلم، ولا يجوز تكفيره. ويحرّم دمه وعرضه وماله. وأيضاً، ووفقاً لما جاء في فتوى شيخ الأزهر، لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوّف الحقيقي. وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح.

كما لا يجوز تكفير أيّ فئة من المسلمين تؤمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأركان الإيمان، وأركان الإسلام، ولا تنكر معلوماً من الدين بالضرورة."

هذا موقف مرجعيّ جامع، فهل يكون من حقّ كلّ مجموعة علمائيّة تلتقي في ملتقى على شكل مؤتمر أو ندوة أن تراجع، أو تنفرد بمواقف تجرّ الفتن والشرور؟

فالكلّ مطالب أن يُقلِع عن مثل هذه الأساليب، وأن تتوقّف مناقشة الأمور العقديّة والأصوليّة والفقهيّة في وسائل الاتّصال، أو بعض الشاشات والمواقع.

3- يحتاج الجميع العودة إلى وثيقة جامعة أخرى هي: (استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية) والتي صدرت في كتاب بعد اعتمادها في مؤتمر القمّة الإسلامي لدول (منظّمة التعاون الإسلامي) في دورته العاشرة التي كان انعقادها في مدينة (بوتراجايا) في ماليزيا وذلك في تشرين الأوّل/أكتوبر من العام 2003، وقد صدرت هذه الاستراتيجية في كتاب نشرته (المنظّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة) (isesco)، وممّا جاء في هذه الاستراتيجية في (ص51،52):

"والمسلمون –كافّة- لم يختلفوا في أصول الدين، ولا في أمّهات الاعتقادات, فلقد كانت حقائق الدين وأركانه، وثوابت الشريعة وحدودها، هي الجامع الموحّد للأمّة في الاعتقاد الديني. وفي إطار هذا الجامع كانت التعدّدية، وكان التنوّع، وكان الاختلاف في فروع الفقه –عبادات ومعاملات- الأمر الذي أثمر المذاهب الفقهيّة التي اشتهرت والتي لم تشتهر."[58]

وقد حوت الاستراتيجية ما يلي: "في هذا الإطار عرف المسلمون تنوّع المذاهب الفقهيّة، والتعدّدية في فرق علم الكلام.

ففي علم الفروع –الفقه- نشأت وتمايزت العديد من المذاهب الفقهيّة، في إطار وحدة الشريعة الإسلامية، وذلك من مثل مذاهب الأئمة :

1. أبو سعيد، الحسن البصري (21-101هـ /642 - 728م).

2. أبو حنيفة النعمان بن ثابت (80- 150هـ / 699- 767م).

3. الأوزاعي : أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد (88- 157هـ / 707- 774م).

4. سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري (97- 161هـ / 716- 778م).

5. الليث بن سعد (94- 175هـ /713- 791م).

6. مالك بن أنس الأصبحي (93- 179هـ / 712- 795م).

7. سفيان بن عيينة (107- 198هـ/ 725 - 814م).

8. الشافعي : محمد بن إدريس (150- 204هـ / 767- 820م).

9. أحمد بن حنبل (164- 241هـ /780- 855م)

10. الظاهري : داود بن علي الأصبهاني البغدادي (201- 270 هـ/ 815- 883م).

11. الطبري : محمد بن جرير (224- 310هـ / 839- 923م).

12. زيد بن علي بن الحسين (79- 122هـ /698- 740م).

13. الصادق : جعفر بن محمد (80- 148هـ / 699- 760م).

14. عبد اللَّه بن أباض (ت 86 هـ / 705 م).

ولقد اجتمعت الأمّة على أنّ ظاهرة التعدّدية في المذاهب الفقهيّة، هي واحدة من سمات الغنى والثراء الفكري في الفروع الإسلاميّة، وعلى أنّها التطبيق الخلاق والثمرة الطيّبة لتعدّدية الاجتهادات."[59]

إنّ معالجة مَجْريات الأحداث بين القتل والتكفير والاستباحة، وتبادل الاتّهامات، محتاج إلى مراجعة مسؤولة للمواقف في ضوء هذه الوثيقة الجامعة، والاستراتيجيّة التي أُقرّت، وهي الدواء الناجع من السموم الناقعة.

4- الموقف الرابع هو الاتّجاه إلى حوار مع كلّ الأمم والشعوب انطلاقاً من كون الإسلام يدعو إلى التعارف بين الأمم، ويؤسّس لاجتماع بشري مستقرّ يكون التعدّد فيه مقبولاً، وقد أصدرت (منظّمة التعاون الإسلامي) في منشورات (المنظّمة الاسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة) ما عنوانه: (الكتاب الأبيض حول الحوار بين الحضارات).

وقد كان بين محتويات الكتاب (الوثيقة الإسلاميّة للحوار بين الحضارات) كما اعتمدتها الدورة التاسعة للقمّة الإسلاميّة، وممّا في نصّ الوثيقة ما يلي:

" أهداف الحوار بين الحضارات هي:

1- تعزيز التواصل والعدالة والتسامح بين البشر.

2- تشجيع التفاهم والاحترام المتبادل القائمين على التفاعل بين الحضارات والتفاعل داخلها، على أساس العقل وقيم الاعتدال والوسطيّة والتعدّدية الثقافيّة والسياسيّة."[60]

وفي الوثيقة كذلك:

"8- حماية حقوق الإنسان السياسية وإغناؤها، بما في ذلك حقّ الأفراد والشعوب والأمم في حريّة تقرير المصير، وفي الحفاظ على هويّتها الثقافيّة، واحترام قيمها وصيانة تراثها الحضاري، خاصّة عند تعرّضها للاحتلال الأجنبي، والحفاظ على كيان الأسرة بوصفها أساس المجتمع الإنساني."[61]

فإذا كان الخطاب في الوثيقة قد جاء تأسيسياً لعلاقات ودّيّة بين الأمم والشعوب من أجل كرامة الإنسان أيًّا كان معتقده وانتماؤه، كيف يكون فضاء لبعضهم كي يعبث بوحدة مجتمع الأمّة وطنياً أو إسلامياً؟

حبّذا لو أنّ المعنيين والنخب قاموا بمراجعة هذه الوثائق، وانطلقوا منها من أجل وقف استعار نار الفتنة، ومن أجل حقن الدماء وإنهاء استباحتها، هذا مع وضع حدّ لمجزرة كبرى ضدّ التاريخ والتراث والحضارة.

 

خاتمة:

كاتب هذه السطور يقوم بتدريس العقائد والأديان منذ أكثر من ثلاثين سنة، وما كان يرغب أن يبسط مثل هذا الموضوع بين أيدي الناس عامّة لولا انعقاد مؤتمر غروزني (25-27 / 8 /2016) وما صدر عنه، وما تلاه من تداول فيه كيد، وتحريض على الفتنة، وكلّ ذلك لا يخدم مقاومة تهويد القدس، ولا يصبّ في مجرى مقاومة التطبيع مع الصهيوني القاتل، ولا سهم له في معركة العرب الكبرى ضدّ الاستعمار والصهيونية، ولا جدوى منه في الدعوة أو خدمة الإسلام والمسلمين، وإنّما الناتج الواحد كان صبّ زيت على نيران الفتن والاقتتال، والاقتراح أو التوصية أن يعمد أصحاب الأقلام والمنابر، وكلّ ذي علم يستشعر صاحبه الأمانة والمسؤولية إلى العمل من أجل الوحدة والتراحم، وأن تتّجه الجهود إلى نشر الألفة والمحبّة مع وقف لغة الاتّهام والتكفير، وفي الوقت عينه العمل من أجل تحرير الإنسان من الاستبداد والظلم، وتحريره من الجهل والفقر والمرض، وأن يكون حشد القوى من أجل تحرير فلسطين وفي قلبها القدس، وتحرير أرض العرب والمسلمين من كلّ أنواع الاستعمار الأجنبي وأشكاله.

وقوله تعالى: ﴿ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز﴾(سورة الحج، الآية 40)

 

[1] أخرجه أبو بكر الهيثمي، في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) في كتاب (الأدعية) في باب (الأدعية المأثورة عن رسول الله التي دعا لها وعلّمها.).

[2] أخرجه الترمذي في (الجامع المختصر) في كتاب (تفسير القرآن) في باب (من سورة آل عمران).

[3] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق نديم مرعشلي، بيروت، دار الكاتب العربي، بلا تاريخ ولا طبعة، ص127.

[4] الراغب الأصفهاني، م.س.، ص260، 261.

[5] القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، ج5، تحقيق أ.د. عبدالله عبدالمحسن التركي وآخرين، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 1426هـ-2006م، ص18، 19.

[6] السحمراني، أسعد، البهائية والقاديانية، بيروت، دار النفائس، ط4، سنة 1430هـ - 2009م، ص17.

[7] الشهرستاني، أبو الفتح محمد عبدالكريم، الملل والنحل، ج1، تحقيق محمّد سيّد كيلاني، بيروت، دار المعرفة، سنة 1402هـ - 1982م، ص93.

[8] الشهرستاني، م.س.، ص42.،

[9] موسوعة الأديان الميسّرة، رئيس التحرير أسعد السحمراني، بيروت، دار النفائس، ط5، سنة 1432هـ - 2011م، ص305.

[10] الشهرستاني، م.س.، ص92.

[11] البغدادي، عبدالقاهر بن طاهر، الفرق بين الفرق، تحقيق محمد محبي الدين عبدالحميد، بيروت، دار المعرفة، بلا تاريخ، ص 335، 336.

[12] البغدادي، م.س.، ص337.

[13] أبو زهرة، الإمام محمد، تاريخ المذاهب الإسلامية، ج1، القاهرة، دار الفكر العربي، سنة 1987، ص126.

[14] الشهرستاني، م.س.، ص45.

[15] الشهرستاني، م.س.، ص51.

[16] البغدادي، عبدالقاهر بن طاهر، م.س.، ص114.

[17] ابن كثير، أبو الفداء الحافظ، البداية والنهاية، م5، ج10، تحقيق مجموعة من الباحثين، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، سنة 1421هـ-2001م، ص353.

[18] الشهرستاني، م.س.، ص54.

[19] أخرجه الترمذيّ في (الجامع المختصر) في كتاب (صفة الجنّة) في باب (ما جاء في رؤية الربّ تبارك وتعالى).

[20] البغدادي، عبدالقاهر بن طاهر، م.س.، ص114.

[21] الشهرستاني، م.س.، ص45.

[22] الأشعري، أبو الحسن، الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق د. عباس الصباغ، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1414هـ - 1994م، ص29.

[23] الأشعري، أبو الحسن، م.س.، ص34، 35.

[24] الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، تقديم وحواشي أسعد السحمراني، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1408هـ - 1988م، ص117.

[25] الراغب الأصفهاني، م.س.، ص118،119.

[26] البغدادي، عبدالقاهر بن طاهر، م.س.، ص334.

[27] البغدادي، عبدالقاهر بن طاهر، م.س.، ص337.

[28] القرطبي، م.س.، ج9، ص393.

[29] الترمذي، الجامع المختصر، في كتاب (الدعوات عن رسول الله) في باب (دعاء النبيّ).

[30] الأشعري، أبو الحسن، م.س.، ص97.

[31] الأشعري، أبو الحسن، م.س.، ص89.

[32] القرطبي، م.س.، ج21، ص427.

[33] أخرجه مسلم، في (الصحيح) في كتاب (الإيمان) في باب (رؤية المؤمنين في الآخرة ربّهم سبحانه وتعالى).

[34] الأشعري، أبو الحسن، م.س.، ص45.

[35] الشهرستاني، م.س.، ص106.

[36] الأشعري، م.س.، ص75، 76.

[37] القرطبي، م.س.، ج4، ص500.

[38] الشهرستاني، م.س.، ص97.

[39] أبو زهرة، الإمام محمّد، م.س.، ص177.

[40] الماتريدي، أبو منصور، كتاب التوحيد، حقّقه وقدّم له أ.د. فتح الله خليف، القاهرة، دار الجامعات المصرية، بدون تاريخ، ص4.

[41] الماتريدي، الإمام أبو منصور، م.س.، ص10.

[42] أبو زهرة، الإمام محمّد، م.س.، ص183.

[43] الماتريدي، الإمام أبو منصور، ص55، 56.

[44] أبو زهرة، الإمام محمّد، م.س.، ص183.

[45] الماتريدي، الإمام أبو منصور، م.س.، ص77، 78.

[46] الماتريدي، الإمام أبو منصور، م.س.، ص79.

[47] الماتريدي، الإمام أبو منصور، م.س.، ص59.

[48] أبو زهرة، الإمام محمّد، م.س.، ص183.

[49] الماتريدي، الإمام أبو منصور، م.س.، ص57.

[50] الماتريدي، الإمام أبو منصور، م.س.، ص58.

[51] أخرجه ابن ماجه، في (السنن)، في كتاب(الزهد) في باب (الزهد في الدنيا).

[52] السحمراني، أسعد، التصوّف: منشؤه ومصطلحاته، بيروت، دار النفائس، ط4، سنة 1436هـ - 2015م، ص39.

 

[53] المكّي، أبو طالب، قوت القلوب في معاملة المحبوب، ج1، مصر، مطبعة البابي الحلبي، سنة 1381هـ - 1961م، ص322.

[54] السراج الطوسي، أبو نصر عبدالله، اللمع في التصوّف، نسخ وتصحيح رنولد ألن نيكلسون، ليدن (هولندا)، مطبعة بريل، سنة 1914، ص10.

[55] للتفصيل يراجع، السحمراني، أسعد، التصوّف: منشؤه ومصطلحاته، م.س.، ص161 وما بعدها.

[56] ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تصحيح وتعليق محمود عبدالوهاب فايد، القاهرة، دار العلم للجميع، بدون تاريخ، ص 18.

[57] للتفصيل راجع: أسعد السحمراني، أيّها المسلمون اتّحدوا، بيروت، دار النفائس، ط1، سنة 1427هـ - 2006م، ص112 وما بعدها.

[58] استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، منشورات المنظّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، سنة 1431هـ - 2010م، ص51.

[59] استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، م.س.، ص51، 52.

[60] الكتاب الأبيض حول الحوار بين الحضارات، منشورات المنظّمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، ط3، سنة 2004م، ص62.

[61] م.س.، ص63.